حيَّيْن، وللأحياء مقاييس من صداقة أو عداوة ولهم صفات يُحَبّون من أجلها أو يُبغَضون؛ كخفة الروح وبسط الكف وحسن المجالسة. فلما ماتا ولم يبقَ إلا موازين الأدب بدأ الناس يدركون أن بينهما بوناً شاسعاً وأمداً بعيداً.
ثم أسمعته لكثير من الأحياء والأموات، فأعجبه غزل رامي، وأنس بجزالة شعر البارودي وحُسن ابتكار صبري. وقرأت عليه من أشعار الشاميين، فقدم الزِّرِكْلي، واستقلَّ شعره وعجب من سكوته الآن، لأن الشاعر عنده مَن ينظم أبداً لا ينقطع حتى ينقطع عن نفسه سيلُ العواطف ويجف منها مَعين الحسّ، ومن يقول مثل شعر الزركلي الوطني الذي يسيل منه الدمع، دمع القلب، لا يمكن أن ينضب ينبوعه. وقد كره قصيدته «العذراء» ورأى فيها ضعفاً في التأليف بيّناً، وأعجبته جزالة شعر محمد البزم، ولكنه رأى ألفاظه أجزل من معانيه ومفرداته أمتنَ من جمله، وأخذ عليه قوله:
إذا كان مَنْ أسدى لك الشرَّ هيّناً ... فقل لي -أبَيْتَ اللعن- من أين تثأرُ؟!
وقال: إن العرب تقول "أسدى إليه يداً" ولا تنطق بها في الشر. أما قوله "أبيت اللعن" فإقحام لا معنى له، لأنها كلمة كان يخاطَب بها ملوك الجاهلية وقد بطلت، فأي ملك من ملوك الجاهلة يخاطب؟
وأخذ على مردم قوله في نشيده:"سماءٌ لَعَمْرُك أو كالسماء"، ورآه سَبْكاً مقلوباً، وكان ينبغي أن يقول: هم كالسماء، بل هم سماء. وأثنى على أنور العطار وطَرِبَ لأسلوبه، وشهد لقصيدته