للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يتسلق الهضبة راجعاً إلى القرية، وعاد الفلاح إلى البيت يجر رجله تعباً، وبقي العالم لي وللظلام.

تدثر الكون بالسواد وتوارى عن الأنظار، وسكنت الدنيا سكوناً مهيباً، ولم يبق في الجَوِّ نامةٌ تُسمَع، إلا هذه الأصوات العميقة تفيض بها الأودية البعيدة والشعاب النائية، وإلا طنين حشرة تطير، ونعيق بوم على تلك الدَّوْحة يشكو ظلمَ الناس وعدوانَهم على وكره الآمن.

* * *

هنالك، عند تيك الشجيرات القديمات، تحت تلك الرِّجام (١) التي يزدحم عليها الشعب ويتكوَّم (٢) الكلأ، كان أجداد القرية ينامون إلى الأبد في حفرهم الضيقة وأجداثهم العميقة؛ لا يوقظهم نسيم الصباح الأَرِج، ولا تغريد البلبل الطَّرِب، ولا زُقاء الديك المزهوّ، ولا زمّارة الراعي السعيد ... كل ذلك لم يعد يوقظهم من رَقْدتهم.

لا، ولن توقَد من أجلهم نيران المدافئ، ولن تقوم في خدمتهم ربّات المنازل، ولن يهتف أطفالهم اللُّثْغ فَرِحين بمقدمهم، ولن يتسلَّقوا رُكَبَهم يستبِقون إلى أحلى تَمْنِية لهم: قبلة آبائهم عند عودتهم إلى منازلهم وأهليهم.

* * *


(١) واحدتها الرَّجْمة، وهي الحجارة التي تُنصَب على القبر (مجاهد).
(٢) كوّم الكَومة وتكوَّمت: من العامي الفصيح.

<<  <   >  >>