طائفة من حمير الشارع تأكل وتهز أذنابها، تتلفّت ترقُب العصا تنهال عليها كما يرقب الذليل المهانة ويعجب إن افتقدها، فلمّا لم تَرَها وعرفت أنها في أمان منها بطرت بطر حديث النعمة وترفّعت ترفّعَ اللئيم يسود في غفلة من الدهر، ونسيت ما كانت فيه كما ينسى غنيّ الحرب عهد الفقر، ويأنف من السيارة الفورد وكان لا يجد عربة الكارّو، ويُدخل أولاده المدارس الأجنبية وكان لا يعرف طريق الكُتّاب!
يستخشن الخزَّ حين يلبسه ... وكان يُبرَى بظفره القَلَمُ
وفكرَتْ هذه الحمير وقدّرتْ، فانتهى بها التفكير إلى أنها لم تعد حميراً وإنما صارت بشراً. أليس في البشر حمير؟ فلماذا لا يكون في الحمير بشر؟
ومرَّ حمار مسكين يجر عربة مثقلة بالحشيش لطعام حيوانات الحديقة فنظر إليها، فلما رآها أجفل وارتدّ. ما هذا؟ حمير مثله؟ إنه يفهم أن يكون في الحديقة نسور وصقور، وفهود ونمور، وزَرافات ونَعَام، وأن يكون فيها حمير الوحش لأنها غريبة المنظر، بعيدة الموطن، نادرة الوجود، أما أن يكون فيها حمير مثله تُسمَّن وتُخدم ولا تعمل، فهذا ما لا يفهمه أبداً!
ووقف ونهق لها يحييّها، فترفعت عنه وتألمت من تطاوله عليها، ومدَّت شفاهها الرقيقة، وضمت آذانها الصغيرة، ولوّحت بأذنابها استنكاراً واستكباراً، ونسيت أصلها وتجاهلت أخاها، كما يفعل الموظف الصغير الذي يعيش بمال الأمة إذا وقف عليه أحد أبناء الأمة يسأل حاجة، إنه يظنه يسأل صدقة أو يطلب إحساناً!