للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الذي سألقيه غداً، وكتب البلاغة التي أكسّر بها دماغي وأدمغة الطلاب من غير طائل، فنحّيتها كلها. ووجدت ركام «الوظائف» التي يجب عليّ أن أنظر فيها وأصححها، وأقرأ كل ما تفيض به هذه القرائح الفتيّة من سخف وهُراء يدعوه أصحابه «إنشاء»، فبعثرتها في غيظ وحنق.

أنا في هذا البلاء منذ عشر سنين. عشر سنين، يا له من دهر طويل! كان ربيع حياتي وزهرة شبابي، أضعته كله في هذا العناء، فماذا استفدت؟ لا شيء إلا أنْ أحرقت نفسي كالشمعة لأضيء لهؤلاء الفتية طريقَهم إلى المجد، هؤلاء الذين أحببتهم وأخلصت لهم الحب، وعشت بهم دهراً ولهم، واعتصرت لهم ماء شبابي، ثم فرّق الزمان بيني وبينهم، فلم أعرف مكانهم من الشام أو العراق، ولم يعرفوا مكاني لأنهم لم يفكروا في أن يعرفوه.

فأنا أحترق كالشمعة! يا للحقيقة المرّة المروِّعة! يا لشمعة شبابي التي ذوت وخبت وأوشكت أن تنطفئ!

إني أعيش في العدم، أعيش في الماضي بالذكرى وفي المستقبل بالأمل، مع أن الحاضر وحدَه هو الموجود. لقد مضى الأمس إلى حيث لا رجعة، ولن يأتي المستقبل أبداً. وأين هو هذا المستقبل؟ ومَن ذا الذي يستطيع أن يصل إليه؟ لقد جلست في مثل هذه الليلة من العام الذي يموت الآن في شرفة منزلي بالأعظمية (في بغداد) أحلم بالمستقبل، بهذه السنة التي كانت مستقبلي، أسعى إليها وأؤمل أن أدركها، فلما أدركتها صارت حاضراً وطفقت أعدو إلى مستقبل آخر! إنني كالثور يسعى ليدرك حزمة الحشيش التي يراها على شبر واحد منه، فيُهلكه السعي ولا

<<  <   >  >>