نسيت الدنيا كلها؛ هذا الوادي الذي تجري فيه العين الخضراء ليّنةَ الأعطاف فاتنةَ المحاسن، كأنها فتاة مدللة تَخطِر بحسنها وفتنتها على سفح الجبل، تغمز بردى بعينها وتغريه بجمالها، وهو يلحقها جرياً في بطن الوادي متحدّراً متكسّراً كشابّ قوي متين العود جهير الصوت، قد اكتملت رجولته كما اكتملت أنوثتها، وأشجار الحَور «حُور كواشف عن ساق» يرقصن في عرس الفتاة المدللة والفتى القوي رقصة الحب، يتمايلن على العروسين وقد تعانقا بعد قليل وضم الفتى عروسه حتى اختفت بين ذراعيه وطار بها إلى دمشق، لتكون جلوتها في الغوطة جنة الأرض. وهذه الجبال الحمراء تقوم على الباب، تحرس الوادي أن يدخله واشٍ أو عَذول يفجأ العروسين العاشقين، وتمنع الشمسَ الملتهبة أن تدنو منهما أو تعكر عليهما خلوتهما، فيبقى الوادي جنة تجري من تحتها الأنهار، والدنيا من حوله في جحيم الصيف.
* * *
غبت في تأملي وأنا على شاطئ البحر، فلم ينبّهني إلا المطر يَسّاقط على وجهي ويديّ، فنظرت فإذا السحب قد نسجت في السماء ليلاً آخر، وإذا المطر يهبط متلاحقاً ثم يستحيل بَرَداً طيّاشاً، ثم تهب الريح وتُجَنّ الطبيعة جنونها، فتنطلق تُعَوّل وتولول وتنتف شعرها وتحطم كل ما بلغته يدها، فماجت نفسي واضطربت كهذا البحر الذي يزمجر ويلكم صخورَ الشاطئ حتى تكلّ سواعده، فيستلقي على الرمال، فلا تكون إلا لحظة حتى ينزل سوط الريح على ظهره دِراكاً، فيهب فزعاً مرتاعاً ويعود إلى ضرب الصخر في غير ما طائل، والريح تُدير هذه المعركة