للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأين -لعمري- مكان الشعور من الطبيعة؟

أنا أشعر بجمال الربيع، ولكن هل يشعر الربيع بجمال نفسه؟ لقد رأت الكونتيسة دي نواي في الطبيعة مخلوقاً حياً ذا شعور، وعانقت الربيع وجالست المساء، ولكن ماذا رأى الربيع في الكونتيسة دي نواي؟ هل يفرّق الربيع بين الفتاة تقطف الزهرة لتقدمها بفمها إلى حبيبها، والبقرة تقطف الورقة لتملأ بها معدتها؟

وأنت أيها الجبل: كم رأيت من الفواجع التي تفتت الأكباد وتذيب القلوب، فهل شعرت بشيء منها؟ هل حزنت؟ هل تألمت؟ أشعرت بالأمس القريب يوم عصفت الأثرة برؤوس نفر من القُوّاد، فأطفؤوا بأفواههم شعلة السلام وملؤوا العالم ظلاماً، ونزعوا الرؤوس من أكتاف أصحابها، ثم نهضوا يبنون من الجماجم مجدهم في التاريخ، فلما امتلأت الأرض بالجثث وغسلت بالدموع، وتجلببت بالآلام والأوجاع والثكل واليتم، ولما سهرت الأمهات يبكين أبناءهن الذين ضاعت قبورُهم كما ضاعت أسماؤهم، وعكف الأطفال يهتفون: "بابا"! ينادون مَن ليس يجيب، كان القواد العظماء يحتفلون بالظفر ... أشعرت بشيء من ذلك يا لبنان؟ أشعرت بالأرامل والصبايا والأطفال يفتشون عن الخبز، الخبز الأسود، فلما لم يجدوه توسدوا رِجْلَك ونظروا إليك صامتين، ثم ماتوا جائعين كما مات ألوف وألوف في سبيل مجد القواد الظافرين؟ ألانَ قلبُك الذي قُدَّ من جلمد الصخر؟ أذرفتَ -يا لبنان- من عيونك الصافية دمعة حنان؟

وكم رأيت -يا لبنان- من متع الحب، وكم أوى إليك

<<  <   >  >>