إن في الطبيعة لَحِسّاً وتمييزاً. ضع ذرة واحدة من الفحم (١)، وخمساً من الإيدروجين يأخذ الفحم أربعاً ويدع الواحدة، ومهما ضاعفت العدد تبقى النسبة ثابتة، أفليس هذا دليلاً على أن الجماد يميز؟ وضع الذهب بين عشرة معادن وألقِ عليه الزئبق، فإنه يعانق الذهب ويدع كل ما عداه. أفليس في هذا دليل على أن في الجماد شعوراً وعاطفة؟ وانظر لنفسك لا تحسّ حرارة الجو ولا ضغط الهواء، ولكن ميزان الحرارة ومقياس الضغط (البارومتر) يحسّان بهما، أفليس هذا دليل على أن الجماد أرهف حسّاً من الإنسان؟
ولكني لم أنتبه لما قال العقل.
* * *
ونظرت إلى البحر فقلت: ما البحر؟ ما الطبيعة؟ أنا لا أرى إلا هذا العالم المادي، ولكن ماذا وراء المادة من عوالم؟ إن الروح أول محطة في طريق هذه العوالم، فهل استطعنا أن نبلغها؟ إن العقل البشري يمشي إليها منذ بدأ صناعة التفكير، ولا يزال في الطريق لم تَبِنْ له معالمُها. إنه تعب وملّ ويئس؛ افتح الآن كتاب علم النفس، إنك لا ترى في فهرسه اسم الروح ولا النفس.
وفكرت في العام الراحل فقلت: ما هو العام؟ ما وجوده؟ ما حقيقته؟ ولم أسمع جواباً، فأغمضت عيني كما أغمضت قبة الأعظمية عينيها منذ عام، ولكني لم أحلم ولم أتذكر، وإنما لبثت صامتاً محدّقاً في غير شيء كالأبله أو المشدوه، وتركت عقلي
(١) أي الكربون، كذا كانوا يسمونه في مدارس الشام من قديم (مجاهد).