للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أو كيف كنت أنا يوماً هذا الغلام؟ وكيف يصير علي الطنطاوي الواحد مئة علي الطنطاوي، ما فيهم واحد كالآخر؟ ولكن ما هذا الذي أقوله؟ أترونني جُننت؟ أم أن الناس قد جنّوا فما يفكر أحد في نفسه ولا يحاول أن يكشف أسرارها ويدرك عجائبها، وما يرون في الحديث عن أسرار النفس إلا فناً من فنون الجنون؟

ومن ينفرد منا بنفسه يفكر فيها ويسائلها: من أين جاءت، ولِمَ خُلقَت، وإلى أين المصير؟ إننا نهرب منها أبداً ونشتغل عنها بكل شيء، حتى الكتاب الفارغ والحديث التافه واللعبة الحمقاء، والقعود على كرسي القهوة الساعات بلا عمل، كل شيء إلا صحبة النفس!

كذلك الناس اليوم: نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

* * *

وأَنِسْتُ بهذا العالَم الذي رجعَتْني الصورةُ إليه، لا أدري أكان ذلك لأنه أفضل وأكمل، أم أن الإنسان فُطر على الزهد في حاضره والحنين إلى ماضيه والتطلع إلى مستقبله. يُضيِّع الحاضرَ لماضٍ لن يعود أبداً ومستقبل لن يجيء أبداً، لأنه إذا جاء صار حاضراً فتركه ومضى يتطلع إلى مستقبل آخر؛ فهو كحزمة الحشيش المعلَّقة بعصا مربوطة بظهر الفرس، فهو يراها أمامه فيعدو ليدركها، وتعدو معه فلا يصل إليها أبداً.

وهذا من عجائب صنع الله في هذه الدنيا، لئلا يشعر المرء أبداً بالاستقرار فيها ولا يرى فيها إلا ما يراه المسافر في القطار.

وصاح بي الغلام يريد أن أرسله لينطلق، فأسقطني صياحه

<<  <   >  >>