العالم الغارق في الدم، الملتحف باللهب، وتشعر أنك تعيش في الأفق الأعلى عيشة اللذة الدائمة والذهول الناعم الهنيء، وسط عوالم من النور تُدرَك ولا تُرى.
لبنان الذي لا تدري أي شيء فيه هو أجمل: أذُراه التي تبرقعت ببراقع الثلج فلم تبصرها عين حي من يوم خلق الله العالم، فعزّ بالحجاب جمالُها حين ذل بالسفور الجمال، أم سفوحه الحالِيَة بالصنوبر، أم القرى المنثورة على تلك السفوح، أم ينابيعه المتفجرة تفجر الحكمة، أم أوديته الملتوية التواء الفكرة في رأس أديب لا يملك البيان عنها؟ وأيُّه هو أبهى: أصباح بلودان، أم ظهيرة الشاغور أو حمّانا، أم الأصيل الفاتن في ربى صوفر، أم المساء الوادع في خليج جونيه، أم مناجاة الملائكة في قمة جبل الشيخ، أم مسامرة الزمان عند الأَرْز، أو في بعلبك؟ أم أنت تؤثر هذا كله وتتمنى لو شملته بنظرة منك واحدة، ثم ضممته إليك، ثم شددت عليه حتى أفنيته فيك أو فنيت أنت فيه؟
تعالوا سائلوا سفوحه وذراه ووديانه ورباه كم شهدت من فصول هذه القصة الخالدة، قصة الحب، وكم أُريق على صخوره من الحَيَوات والعواطف، يُطِلْ جوابَكم لو ملك الكلام. ولكنه أبكم لا ينطق، والناس بُكْمٌ لا يروون إلا تاريخ الوحشية المدمرة العاتية، يحفّظونه أبناءهم ليكون لهم منه أظفار كأظفار الوحش ومخالب كمخالب النسور، أما تاريخ الإنسانية العاشقة فإنهم يَزْدَرونه ويترفعون عن حفظه، ويرون من الخطر على الأخلاق أن يُدَرَّس في المدارس!