في شمالي المسجد وسألني: ما هي؟ فحرّك بهذا السؤال سواكن ذكرياتي، وردّني إلى مَواضي أيامي، فرجعت أدراجي ثلاثاً وأربعين سنة حتى عدت تلميذاً في هذه المدرسة، وجعلت أستعيد صور حياتي فيها وأتذكر أساتذتي ورفاقي.
وأين رفاقي؟ أين؟ لقد تشعّبت بهم سُبُل الحياة وضربهم موج لُجّتها، فرفع ناساً وخفض ناساً وأغرق آخرين. كانوا متجاورين في المدرسة على مقعد واحد، فاختلفت في الحياة مقاعدهم، فجلس هذا على سدّة الحكم وذلك على كرسي الحاجب على بابه، وصار هذا هو القاضي ورفيقه هو المتّهَم الذي يقوم بين يديه، وغدا هذا من أرباب الأموال والأعمال فلا يدري ما يصنع بماله، وذلك من أصحاب العَيْلة (١) والعيال فلا يعرف -لعيلته- من أين ينفق على عياله.
اغتنى ابن الفقير وافتقر ابن الغني، وتأخر في الحياة من كان في المدرسة سابقاً وسبق من كان فيها متأخراً، ومشى قومٌ على الطريق السوي، فكان غاية مسعاهم وظيفة فيها الستر أو مورد فيه الكفاف، وقفز قوم من فوق الأسوار، فكانوا يوماً في الأوج ويوماً في الحضيض، في القصر حيناً وحيناً في السجن!
كم ربَّتْ هذه المدرسة من أطفال وكم خرّجت من رجال! كانت الدروس للجميع، وكانت كلها هدى وخير، فاهتدى بها من اهتدى وضل من ضل، كالمطر يهطل على الأرض كلها، فتتشربه قطعة فتنبت به الزهر والثمر، وتأباه أخرى فتحيله بِرَكاً لا