ودخل الصف بلباسه العسكري تُزيّن صدرَه الأوسمةُ ويتدلى على جانبه السيف، ومن ورائه وزير المعارف والمديران وبعض الأعوان، وكان رفيقنا حسن السقّا يقرأ هذه القصيدة، فمد بها صوته وصال بها وجال ومال واختال، فلما انتهى قال له الباشا: من علمك هذا؟ فقال: الأستاذ (وأشار إلى حسني كنعان مدّ الله في عمره).
فمد الباشا يده ليصافحه، فنظرنا فإذا الأستاذ يصفَرُّ لونه ويميد ويكاد يهوي لولا أن استند على مقعد الطلاب، كل ذلك من رعبه من اليد الممتدة إليه، حتى إذا علم أنها مُدَّت للمصافحة عادت إليه روحه. فلما خرج الباشا قال الأستاذ: أرأيتم؟ هكذا ينبغي أن تكون الشجاعة ويكون الثبات!
وضحك التلاميذ ضحكاً مكتوماً، لا من كلامه، بل من البلل الذي لحظوه في سراويله!
وقد روى هذه القصة بنفسه وكتبها بقلمه، ولو كنت أعلم أنه يسوؤه ذكرها لما ذكرتها. والأستاذ حسني كنعان -بعد ذلك- من أبَرِّ الإخوان وأوفى الأصدقاء (١).
* * *
(١) كل ما جاء في هذه المقالة مفصل في الذكريات، وهذه القصة في الحلقة السادسة منها. وقد كان الأستاذ حسني من الأوفياء حقاً، لا أذكر أن جدي حلَّ بالشام يوماً إلا وكان من أسرع الناس إلى زيارته وأحرصهم على اللقاء به، على وُدٍ وإخاء وانسجام وصفاء جمع بينهما، رحمهما الله (مجاهد).