أم كان متكئاً في زورقه، يرقب الشمس وهي في موقف الوداع صفراء شاحبة، لا يحفل بها أحد ممّن كان في الميناء لأن هموم العمل لم تدع في قلوبهم مكاناً للشعر، فأيقظه من غفلة التأمل أسرة تريد أن تجول في البحر جولة في الزورق، هنالك رآها واستقر حبها في قلبه، ولم يكن بذي صاحبة ولا ولد، فهام بها هياماً وقلب الأرض يفتش عنها علّه يحظى منها بنظرة فلم يلقها، فعاش بقية عمره يتجرع غصص الألم المكتوم، حتى مات حيث لقيها ودُفن حيث مات؟
أم أن هذا قبرها هي، يقوم على الشاطئ، على مسرح المأساة التي طالما مُثِّلَت عليه وأُعيدت؟ هنا كانت تقوم ترقب عودته من المهجر، من أميركا، تذكر أبداً كيف ودّعته بالدموع الغِزار وودّعها، ومنّاها الغنى والجاه والعودة القريبة، وانقضت الأيام وكرّت الشهور ولا حسَّ ولا خبر، والفتاة ترقب وتنظر وقد عافت عشّها وجَفَت أهلها، واختصرت دنياها كلها فكانت هذه الصخرة الصلعاء التي شهدت مبدأ آلامها وتأمُل أن تشهد نهايتها، تظن -من حبها وتذكّرها- أن السفينة لا تزال قريبة منها، وأن الحبيب يلوح بمنديله لا يزال، وبينها وبين الحبيب بحار ولُجَج وأيام وليال، والحبيب قد سلاها ونسيها، وطمست صورتَها في نفسه أمواجُ الثروة واللذة والدنيا العظيمة في نيويورك حتى محتها ... فماتت شوقاً إليه وأسفاً عليه.
أم هي لم تمت، وإنما شهدت عودته، فإذا هو قد عاد رجلاً غير الذي ذهب لم يبقَ فيه من ابن القرية إلا كما يبقى من ندى الصباح تحت شمس الهاجرة، لا زيّه زيه ولا لسانه لسانه،