لا أدري فيمَ هذا الضعف ولا أحبه من نفسي، ولكني أدري أني أتخيلك الآن وحيداً فريداً لا ترى حولك قريباً ولا صديقاً، تطل من شرفة الباخرة فلا ترى إلا السماء والماء، وقد أخذك دُوار البحر فلم تجد مُعيناً ولا مسعفاً، وأتصورك في ذلك البلد الغريب الذي لا ترى فيه إلا وجوهاً تنكرها، وأنت الذي لم يفارق بلده قط ولم يغب عن أهله ليلة ولم يسافر وحده أبداً.
فلذلك ما أحزن، وفي ذلك أفكر.
ولكنها -يا أخي- خطيئة تربيتنا الاتكالية. لو أن آباءنا عوّدونا، ولو أنّا عوّدناك على الحياة الاستقلالية الصحيحة، وتركناك وأنت في الثانية عشرة تذهب وحدك وتعود وحدك، وعوّدناك حمل التبعات، وأيقظنا فيك شخصيتك ولم ندعها ضائعة في شخصياتنا، ودفعناك إلى استثمار مواهبك ولم نتركها معطلة ... لو فعلنا ذلك وأنت في الثانية عشرة، لما خفت عليك السفر وحدك إلى باريس وأنت في طريق العشرين.
* * *
يا أخي: إنك تمشي إلى بلد مسحور والعوذ بالله، الذاهب إليه لا يؤوب إلا أنْ يؤوبَ مخلوقاً جديداً وإنساناً آخَرَ غير الذي ذهب، يتبدل دماغه الذي في رأسه وقلبه الذي في صدره ولسانه الذي في فيه، وقد يتبدل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك!
إي والله يا أخي، هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا (إلا من عصم ربك)، يذهبون أبناءنا وإخواننا وأحباءنا، ويعودون عُداةً