ثم رأيت وجهه الفرنسي الأصيل في يوم كنت فيه أنا أيضاً مجنوناً يفكر بأعصابه لا بدماغه، ويرى الدنيا كلها خلوة من خلوات الحب، والحياةَ قصة من قصص الغرام، والوجودَ كله وجه فتاة فتّانة ... وقاتل الله الصبا وحماقات الصبا! عرفته يومئذ فرأيته بجنوني بطلاً من أبطال الحب وشهيداً من شهداء العاطفة، ولكني عدت إليه اليوم -وقد عقلت أو كدت- فإذا هو ... أعوذ بالله!
يقول المجانين: إن الحب يطهّر النفوس ويزكيها ويوسع آفاقها وينميها ويسمو بها ويعليها، فتعالوا اسمعوا حديث هذا المحب الفرنسي ماذا صنع به الغرام. هجر أباه وتبرأ منه وأنكر حق أبوّته، ثم ذهب أخوه إلى المعركة وخاف أن يسقط عن سرجه، فبعث إليه يسأله ثمن سرج جديد، فلم يردّ عليه لأنه يحتاج إلى المال لينفقه فيما هو أهم، يريد أن يستأجر به مقعداً في المرقص يرى منه وجه ليلاه، أي «ماجدولينته»، فسقط أخوه عن سرجه ومات في المعركة! ثم فارق أباه وبقي في العراء، فأحسن إليه واحدٌ من أقربائه وأعطاه ما يبتغي من المال، فكانت مكافأة إياه على إحسانه أن سرق ماله، ودفع خنجراً في صدره فعجل موته!
فعل ذلك كله من أجل امرأة، أضاع كل شيء ليجدها، ولكنها أعرضت عنه ومالت إلى غيره، إلى صديقه الذي قاسمه خبزه وشاركه فراشه، صديقه الذي سلبه سريره من تحته فباعه لينفق ثمنه على مآربه وهواه، وهذا المجنون المغفل لا يحس ولا يدري لأن الحب أعماه وأصمَّه. وهل رأيتم محباً له بصر؟ أعرضَت عنه، ولها الحق في الإعراض، هل تتزوج مجنوناً؟ إن الزواج إذا بُني على هذا الجنون الذي يسميه أصحابه «حباً» صار