للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أبواب القول ومنافذه وكُواه، وعدت مُرْتَجَاً عليّ محبوساً لساني كأني ما مارست الكتابة قط!

وكذلك نفس الأديب يا سادة؛ تتفتح تفتُّح الينبوع الدفّاق، ثم تشحّ شحّ الصخرة الصماء ما تبضّ بقطرة ماء (١)، ولكن الناس لا يصدقون ذلك. إنهم يحسبون الكاتب يُخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه، ولا يدرون أن هذا الكلام يجيء أحياناً حتى ما يقدر الأديب على ردّه، ويعزُب حيناً حتى لا يلقاه، وأنه يعلو ويصفو، وينزل ويتعكر.

وما عجزت الليلة عيّاً ولا فَهاهَةً (٢)، فأنا أكتب في الصحف من عشرين سنة، ولكن الكتابة بالأجرة، بيع وشراء، ولكل مبيع ثمن، وأنا أحب أن أنتصف وأنصف الناس من نفسي، لذلك رأيتني كلما سقطت على موضوع وزنته فوجدته لا يساوي الثمن الذي تدفعه لي المحطة، فتركته وفتّشت عن أغلى، وكلما خطرت لي فكرة طمحت إلى أعلى، حتى كاد يمضي الوقت ولم أصنع شيئاً، ونزل بي ما نزل بالأستاذ توفيق الحكيم لمّا كلفوه أن يضع حواراً للفِلْم وجعلوا له جُعْلاً ضخماً، فحصر فيه فكره وحشد له قواه وفَرَّ لأجله من داره، ثم انتهى به الأمر أن ألّفَ كتاب الحمار ولم يضع الحوار (٣).


(١) لا تبضّ الصخرة بالماء: لا ترشح، ومنه قولهم: بَضَّت عينُه، أي دمعت (مجاهد).
(٢) الفَهاهة والعي بمعنى واحد، والفعل منه فَهَّ يَفَهُّ (مجاهد).
(٣) «حمار الحكيم»، كتاب مشهور لتوفيق الحكيم (مجاهد).

<<  <   >  >>