جلت في الأسواق. وأسواق دمشق ليلةَ العيد كأنها المحشر، قد أُوقِدَت فيها المصابيح وفُتحت المخازن وانتشر الباعة، وتدفّق عليها أهل البلد والفلاحون بالأزياء المختلفات واللغات المتباينات، وكل بائع ينادي برفيع صوته، وكل مُشترٍ يصيح، وكل مجتاز يتكلم، والبضائع معروضات من كل مأكول وملبوس ومفروش ومنظوم ومشموم، وكلٌّ يريد أن يُعِدّ الليلةَ عدّته للعيد فيشتري فيها طعامه ولباسه.
وكنت أسير في هذا الزحام شاردَ الذهن نازحَ الفكر، أُعمل عقلي في هذه القصة التي وعدت بها المحطة فأعلنَت عنها وبشّرَت بها، ثم لم أستطع أن أكتبها، حتى وصلت إلى باب المُصَلَّى (١)، فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر، فأقبلت أدفع الناس بكتفي وأشق طريقي بيديّ كلتيهما، وأطأ أعقاب الناس وأقدامهم، وأصغي إلى هذا الفيض العجيب من «النثر الفني» الذي جادت به قرائحهم فتدفق عليّ من ألسنتهم، حتى بلغت المشهد ونظرت.
نظرت فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان؛ أما أحدهما فكان مسكيناً قميئاً أعزل عاجزاً، وأما الآخر فكان ضخماً طُوالاً كالح
(١) حي في أول الميدان (ميدان الحصى) في دمشق، كان فيه مُصلّى العيد لمّا كان الناس يعرفون السنّة فيصلون العيدين فيه لا في المساجد.