للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أسبابَها كسائر الفتاوى. واحتَجَّ على ذلك بالقاعدةِ المتقدمة (١)، وهي أنَّ الغالب على تصرُّفه - صلى الله عليه وسلم - الفُتيا، لأنَّ شأنَهُ الرسالةُ والتبليغ.

وأمَّا مالكٌ: فخالَفَ أصلَهُ في القاعدة، وجعَلَهُ من باب التصرُّف بالإِمامة، بخلاف المسألتين المتقدمتين، وسببُه أمورٌ:

أحدُها: قولُهُ تعالى: {واعلَمُوا أنَّما غَنِمتُمِ من شيءٍ فأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} (٢). فالآية تقتضي أنَّ السَّلَبَ فيه الخُمُسُ لله - عَزَّ وَجَلَّ -، وبقيتُهُ للغانمين. والآيةُ متواترة، والحديثُ آحاد، والمتواترُ مقدَّم على الآحاد (٣).

وثانيها: أنَّ إِباحةَ هذا تُفضِي إِلى فسادِ النيَّات، وأن يَحمِلَ الِإنسانُ بنفسه على قِرْنهِ من الكُفِّارِ لما يَرى عليه من السَّلَب، فربما قَتَله الكافرُ وهو غيرُ مُخْلِصٍ في قتاله، فيَدخُلُ النار! فتذهَبُ النفسُ والدِّين! وهذه مَزَلَّة عظيمة تقتضِي أن يُترَك لأجلها الحديث (٤)، لأنَّ الآحَادَ قد تُترَكُ للقواعد، لا سيَّما والحديثُ لم يُتْرَك، وإِنما حَمَلناه على حالةٍ وهو أن يُجعَل من باب


(١) في أثناء المسألة الأولى ص ١١١. وتلك القاعدة هي: "أن الغالب من تصرُّفاته - صلى الله عليه وسلم - عند الشافعي ومالك - تصرُّف بالفُتيا، فإن عامَّة تصرفاته التبليغ، فيُحمَلُ عليه تغليباً للغالب الذي هو وضْعُ الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ".
(٢) من سورة الأنفال، الآية ٤١.
(٣) عُلَّقَ في حاشية مخطوطة الأحمدية هنا: الحديثُ خاص فيُخَصُّ به عمومُ الآية وإن كان خبرَ واحد.
(٤) زاد المؤلف في "الفروق" ١: ٢٠٨ في الفرق (٣٦): "وسبَبُ مخالفة مالك لهذا الأصل أمور: منها أن ذلك ربما أفسد الإِخلاص عند المجاهدين، فيقاتلون لهذا السَّلَب دون نصر كلمة الإسلام، ومِن ذلك أنه يُؤدَّي أن يُقبِل على قَتْلِ من له سَلَبٌ دون غيره، فيقع التخاذلُ في الجيش، وربما كان قليلُ السَّلَب أشدَّ نكايةَ على المسلمين. فلأجل هذه الأسباب تَرَكَ هذا الأصل".

<<  <   >  >>