وبعد أن تَمَّ لمصطفى كمال تنفيذُ هذه الصفقة، ومنها إلغاءُ الأذان باللغة العربية، وتغييرُ كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية (حتى كتابة المصاحف)، وتغييرُ أسماء الأشخاص الأتراك الذين أسماؤهم عربية إلى أسماء طُوْرَانِيَّة، وتسمَّى هو (أتاتورك) بدلاً من (مصطفى كمال): اتفَقَتْ فرنسا على أن تتخلى لتركيا عن لواء الإِسكندرون بكامله (ومنه قضاء أنطاكية وما يتبعها)، فسُلِخَ لواء الإِسكندرون عن سورية وأُلحِق بتركيا الحديثة، وطُبَّق فيه نِظامُها العلماني الجديد، ومنه فَرضُ اللباس الِإفرنجي، والقُبَّعَةِ الأوروبية (البرنيطة)، وفَرضُ الحُسُورِ على النساء، ومنعُ تغطية رؤوسهن بغير البرنيطة الإِفرنجية ... إلخ.
وكان في أنطاكية إذ ذاك عالِمُها الصالح ومرْجِعُها الديني الشيخ محمد زين العابدين الكردي، فهاجر بأسرته وأولاده من أنطاكية إلى حلب، واستقروا فيها حفاظاً على دينهم.
وكان له عدد من الأبناء أبرزَهُم الشيخُ عبدُ الرحمن (موضوع كلمتي هذه والشيخ محمد أبو الخير) - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -، وكانا إذ ذاك من طلاب العلوم الشرعية المتميزين بحُسنِ فهمهم. وقد عُهِدَ إلى والدهم الشيخ محمن زين العابدين بتدريس التفسير والحديث النبوي في المدرسة الشرعية، التي افتُتحَتْ في حلب، أول العِشْرِينيَّات من هذا القرن الميلادي (القرن العشرين)، عقِبَ احتلال الفرنسيين لسورية ولبنان كما أشرتُ إليه آنفاً، وكان اسمها المدرسَةَ الخُسْرُوِية (نِسبةَ إلى خُسْرُو باشا من رجالات الدولة العثمانية وهو بانيها)، وكنتُ أنا من الرعيل الأول الذي دخلها للدراسة بعدَ ترميمها وافتتاحها، فقد تعطل فيها التدريس خلال الحرب العالمية الأولى، وأصبحَتْ أثناء الحرب ثُكْنَةَ عسكرية، لموقعِها المهم بجانب قلعة حلب، ومزاياها وسعةِ ساحاتها وكثرةِ أجنحتها وغُرَفها.
[مواهب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الفريدة]
كان الشيخ عبد الرحمن - إلى جانب حسن تحصيله ومداركه الدقيقة في العلوم الشرعية - يتمتع ويتميز بين إخوته بمزايا ومواهب فريدة، وبعضُها عجيب ونادر جداً:
١ - فقد كان حديدَ البصر يُميِّزُ بعينه المجردة دقائق الأشياء التي يَحتاج كثيرٌ غيرُه