إذا قلتم: إنَّ حُكم الحاكم لا يُنقَض، فهل معناه أنَّ الحاكم لا يَنْقُضُه وللمفتي أنَّ يُفتي بما يخالفه كما كان قَبْل الحكم، أو تَبْطُلُ الفُتيا بمخالفته وتصيرُ مسألةَ اتفاقٍ بعد الحكم؟
فإن قلتم: تَبْطُل الفُتْيا أيضاً مع الحكم، فيُشكِلُ ذلك بما قاله صاحبُ "الجواهر"(١) في قوله في كتاب الأقضية في نقض الأحكام فيما يُنقَضُ منها، قال:
"الفَرْعُ الرابعُ أنَّ القضاء وإن لم يُنْقَض فلا يَتغيَّرُ به الحكمُ الباطن، بل هو على المكلَّف على ما كان قبلَ قضاءِ القاضي، وإِنما القضاءُ إِظهارٌ لحُكم الشرع لا اختراعٌ له، فلا يَحِل للمالكي شُفعةُ الجار إِذا قَضَى له بها الحنفي، ولا يَحِلُّ لمن أقام شهودَ زُور على نكاح امرأة فحكمَ له القاضي - لإعتقادِه عدالتَهم - بنكاحِها وإِباحةِ وطئها: أن يطأها، ولا أن يَبْقَى على نكاحها".
(١) هو الإِمام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن نجم بن شَاس بن نزار الجُذَامي السَّعْدي المصري، كان جدُّه شَاس من الأمراء، وكان هو إمامَ المالكية في عصره، وكان محدِّثاً حافظاً ورعاً، حدَّث عنه الحافظ زكي الدين المنذري. وكتابه المشارُ إليه اسمه "الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة"، على ترتيب كتاب "الوجيز" للإِمام الغزالي، وهو من أجمع كتب الفروع عند السادة المالكية وأكثرِها فوائد. وله كتاب "كرامات الأولياء". وكان يُدرَّسُ بمصر في المدرسة المجاورة للجامع العتيق جامع عمرو بن العاص، فلما نَزَل الإِفرنجُ على ثغر دمياط وحاصروها، توجَّه الشيخ إليها بنية الجهاد والقتال في سبيل الله، فتوفي هناك سنة ٦١٦، - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.