هذا نصُه في "الجواهر". ومع هذا النص كيف يقولون: إِن الفُتيا تَبْطُل بحكم الحاكم؟ وهو يقول: الحكُم في الباطن على المكلَّف على ما كان عبيه، وإِنَّ المالكيَّ إِذا حَكَم له الحنفيُّ بشفعة الجار لا يجوزُ له أخذُها، فلو كانت الفُتيا تَبْطُلُ بالحكم وتصيرُ المسألةُ إِجماعيةً لجاز للمالكي أخْذُ شفعةِ الجار، ولا سبيلَ حينئذٍ إِلى القول بتغيير الفتاوى لقضاء الحكام بخلافها؟
جَوَابُهُ
اعلم أنَّ جماعةً من أعيان المالكية اعتقدوا بسبب هذا الفرع، أنَّ حكم الحاكم في مسائل الخلاف لا يُغَيرُ الفتاوى، فإِذا حَكَم فيها بالحِلِّ مثلاً بقي المُفتِي بالتحريم يُفتي به بعد ذلك. فالقائلُ: إِنَّ وَقْفَ المُشاع لا يجوز، أو إِنَّ الوقفَ لا يجوز، إِذا حكم حاكمٌ بالجوازِ والنفوذِ واللزومِ بَقي للآخرَ أن يُفتي بجواز بيعِ ذلك الموقوف، والممتنعُ النقضُ دون الفُتيا.
وكذلك إِذا قال: إِن تزوَّجتُكِ فأنتِ طالق، فتزوجَها وحكمَ حاكمٌ بصحةِ العقد وبقاءِ النكاح وعدَمِ لزوم الطلاق: إِنَّ لِمخالِفه أن يُفتي بعد ذلك أنها حرام عليه. وهذا أعتقدُه خلافَ الإِجماع، ولم أجد هذا النقلَ الذي في "الجواهر" لغيره، مع أني بذلتُ جهدي في تتبُّعِ المصنَّفات. والظاهرُ أنَّ عبارته - رضي الله عنه - وقَعَ فيها توسُّعٌ، ومقصودُهُ إحدى مسألتين في المذهب:
إِحداهما: أنَّ الحكم إِذا لم يصادف سبَبه الشرعي فإِنه لا يُغَيِّرُ الفُتيا، كالحكمِ بالطلاقِ على من لم يُطلِّق، إِمَّا لخطأ البيِّنة وإِما لتعمُّدها الزُّور. وقد ذكَرَها في "الجواهر" في عين الفرع كما تَقدَّم الآن نقلُه، أو بالقِصاصِ أو غيرِه مع انتفاء سببه، فإِنَّ الفتاوى عندنا على ما كانت عليه قبلَ الحكم خلافاً لأبي حنيفة.