ولما بَعَثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، نَزَل في حيّ منهم، وقال: لا تَرَوْني أصنعُ شيئاً إلَّا صنعتم مثلَه، فلما صلَّوْا لم يَبق أحدٌ إلَّا قدَّم إحدى رجليه، فلما انصرفوا قال لهم: "إنَّما فعلتُ هذا من عَرَج، فلا تفعلوا مثل هذا". انتهى. فإن صح هذا - إذْ لم أتحققه - فيُفسِّرُ قدومَ معاذ - رضي الله عنه - يوم القيامة أمامَ العلماء بَرتوَة، يعني أنَّه مع عَرَجِه متقدمٌ عليهم في القدوم. وهذا مديحٌ رفيع. وكان معاذ - رضي الله عنه - أجش الصوت، أوتي محبّة الناس له. قال عَمْرو بنُ ميمون: قَدِمَ علينا معاذ اليمن رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من السَّحَر رافعاً صوته بالتكبير، أجشَّ الصوت، فألقِيَتْ عليه محبتي. ذكره الحافظ ابن حجر عن الأوزاعي يرويه عن عَمْرو بن ميمون. كما في "تهذيب التهذيب" في ترجمة (عمرو بن ميمون) ٨: ١٠٩ - ١١٠. ولمَّا وجَّهه رسول الله سنة عشر من الهجرة وبعد سبع سنوات من إسلامه إلى اليَمَن إلى مدينةِ الجَنَد قاضيًا ومعلَّماً للناس القرآن وشرائعَ الإسلام، مسألة كيف يقضي إذا عَرَض له قضاء؟ فكان جوابُه دالاً على زكانَتِهِ وفَطانته وسَعَةِ مداركه الفذَّة على حداثةِ سِنِّه، فحَمِدَه رسولُ الله وأثنى عليه وأمضَى إرساله. روى أبو داود ٣: ٣٠٣، والترمذي ٦: ٦٨، والدارمي ص ٣٤، وابن سعد ٢: ٣٤٧، والقاضي وكيع في "أخبار القضاة" ١: ٩٨، واللفظُ مجموع من رواياتهم عن معاذ قال: "لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال لي: كيف تقضي إن عَرَض لك قضاء؟ قلتُ: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قلت: أقضي بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قلتُ: أجتهد برأيي ولا آلو - أي لا أُقصِّر - قال: فضرب رسول الله صدري بيده وقال: الحمدُ لله الذي وفَّق رسولَ رسول الله لما يُرضِي رسولَ الله". وبلغ من تكريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإظهاره لشأنه وفضله: أن خرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خارج المدينة يُودعه ويُوصِيه، ومعاذٌ راكبٌ، ورسولُ الله يمشي تحت راحلته، =