للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

أجوبتها نجدها تنطوي على حكمة باهرة، ألا وهي أن يجد المفكر الحر فيها الحقيقة الناصعة الواقية عن الوقوع في شرك محترفي الغزو الفكري والتأثر بأخيلتهم المتكلفة الباطلة.

لقد فوجئ محمد عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له اقرأ، حتى يتبيَّن أن ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مردّه إلى حديث النفس المجرّد، وإنما هي استقبال وتلقٍّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات.

وضَمُّ المَلَكِ إيّاه ثم إرساله ثلاث مرّات قائلاً في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيداً لهذا التلقّي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصوّر، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخلياً فقط.

ولقد داخله الخوف والرعب مما سمع ورأى، حتى إنه قطع خلوته في الغار وأسرع عائداً إلى البيت يرجف فؤاده، لكي يتضح لكل مفكّر عاقل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متشوّفاً للرسالة التي سيُدعى إلى حملها وبثّها في العالم، وأن ظاهرة الوحي هذه لم تأتِ منسجمة أو متممة لشيء مما قد يتصوّره أو يخطر في باله، وإنما طرأتْ طروءاً مثيراً على حياته، وفوجئ بها دون أي توقّع سابق.

ولاشك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير إلى أن تتكوّن في نفسه ـ بطريقة الكشف التدريجي المستمر ـ عقيدة يؤمن بالدعوة إليها! ..

ثم إنّ شيئاً من حالات الإلهام أو حديث النفس أو الإشراق الروحي أو التأملات العلوية، لا يستدعي الخوف والرعب وامتقاع اللون. وليس ثمة أي انسجام بين التدرج في التفكير والتأمل من ناحية، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحية أخرى. وإلَّا لاقتضى ذلك أن يعيش عامة المفكرين والمتأملين نهباً لدفعات

<<  <   >  >>