للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقاً وَعْراً بين الشعاب، فو الله ما شعر بهم خالد بن الوليد حتى رأى من بعيد قَتَرَةَ الجيش (١)، فانطلق يركض نذيراً لقريش، يخبرها بتسلل محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى تخوم مكة، أي في الوقت الذي وصل فيه المسلمون فعلاً إلى طريق في الجبل يشرف على الحديبية، ويُهبَط منها عليهم، يدعى ثنية المِرار (٢)، حيث بركت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزجرها الناس بالقول المعهود عندهم إذا تركت ناقةٌ السير، وهو: حَلْ، حَلْ، طلباً لقيامها فامتنعت، ولم تستجبْ لهم، فظنوا أنه قد أصابها ما يصيب النوق من الأحوال، فقالوا: خَلأتِ القصواء (٣)! فتدخل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليذكرهم بسلطان الله على الوجود، وأنّ الناقة التي بركت يوماً في المدينة لتحدد للمسلمين موضع المسجد النبوي الذي تشد إليه الرحال من كل أرض، هي ذاتها التي تبرك اليوم بإلهام من خالقها، لأمر لا يدري عنه المسلمون شيئاً، لذلك قال لهم: ما خَلأتْ القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل (٤).


(١) القَتَرَة الغبار الأسود، أي غبار الجيش.
(٢) فتح الباري جـ ٥ ص ٤١٠.
(٣) القصواء اسم ناقة رسول - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى خَلأت أي تأبت عن القيام؛ لأن الخَلاء للإبل كالحران للخيل. نفس المرجع والجزء ص ٤١١.
(٤) أي حبسها الله عزَّ وجلَّ عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها. قال العلامة ابن حجر العسقلاني: ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدّهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال كما لو قُدّر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون، وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب ناس منهم بغير عمد كما أشار إليه تعالى في قوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} [الفتح: ٢٥] الآية .. انظر فتح الباري نفس الجزء والصفحة.

<<  <   >  >>