للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= أقول: أمّا ما قصد إليه هذا الرجل من ذلك، فقد أبْعَدَ النُّجعَةَ، وأخطأ الطريق، وخانه الهدف! .. أقول: كثيرون هم الذين سعوا هذا السعي، واعتصروا الفكر، واستنجدوا بالحيلة، وناشدوا التاريخ، كي يتاح لهم أن ينسجوا صورة من هذا القبيل لمحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما عادوا من سعيهم أو محاولتهم بأي طائل. وظل كل من العقل والتاريخ والفكر الحر أميناً على الكلمة الجامعة التي وصف الله بها محمداً - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)}.
اقرأ ما تشاء من صفحات أي كتاب في شمائل هذا الرسول العظيم، تجد نفسك أمام المثل الأعلى، والنموذج الأتم للإنسانية السامية الصافية عن الشوائب، وللذوق الرفيع في مقاييس المعاملة والسلوك، والمرهف في رعاية الآخرين والاهتمام بهم، وللنظافة والرتابة وأناقة الشكل والمظهر، وللتواضع المتناهي أمام كل فئات أصحابه.
ولم يكن يستقبل الوافدين إليه إلّا بأنظف الثياب، وأبهى الحلل.
كان أشدّ ما يكون حرصاً على أن لا يرى الناسُ إلّا ما تُسَرُّ به العين، وأن لا تقع أُنوفهم منه إلّا على أطيب رائحة. وقد ثبت أنه كان ينفق جلَّ ماله في الطيب.
لم يكن يأكل ثوماً أو بصلاً أو أي طعام يتأذى الناس منه برائحة كريهة. ولما كان ضيفاً في دار أبي أيوب الأنصاري، في أيامه الأولى من هجرته إلى المدينة، وعادت قصعة الطعام من عنده مرة دون أن يطعم منها شيئاً، فزع أبو أيوب وهرع إلى رسول الله يسأله عن سبب ذلك، فقال: لقد شممت فيه رائحة تلكم الشجرة (أي الثوم) وأنا أُناجى (أي يزورني الناس وأُحادثهم) أما أنتم فكلوا.
وكان إذا مضى لقضاء حاجة، أبعدَ، ثم أبعد، حتى لا يقع الناس منه على أثر. وكان يرجّل شعره، ويتعهد فمه وأسنانه، وربما أبصر صُفْرة في أسنان بعض جلسائه، فتوجه إلى الجميع بنصيحة عامة ونقد رفيق، وقال: ما لكم لا تأتونني قُلما لا تتسوكون؟ هذا هو محمد عليه الصرة السلام، في بعض ما تتحدث عنه شمائله المعبرة عن سمو أخلاقه، ورقة شعوره وشفافية ذوقه ونبل إحساسه فهل ترى في هذه اللوحة الإنسانية النموذجية مساحة ما، لقبول أي عبث أو تزوير وتشويه؟ .
إذن فليس في شيء من حديث عروة بن مسعود عن حب الصحابة لرسولهم، ما يلحق بالرسول أي منقصة في طبعه، أو يصمه بأي غلظة في تعامله وسلوكه، أو يبرزه في مظهر المدلِّ زهُوّاً على أصحابه، أو الدافع لهم على ما فعلوا.
فإن أراد هذا الرجل أن يتحول بعدئذٍ بالنقد والاشمئزاز إلى أولئك الناس الذين ساقهم الحب على ما صنعوا، فإن عليه أن يتبين قبل كل شيء خصمه الحقيقي الذي أثار في نفسه بواعث النقد ولاشمئزاز حتى لا يتهم البرآء ظلماً وعدواناً. =

<<  <   >  >>