الحب هو الذي حمل أولئك الناس على فعل ما وصفه عروة بن مسعود، وفعل ما هو أبلغ من ذلك. والحب هو الذي لين تحت سلطانهم الحديد، وقرب إليهم البعيد، وجعل المستحيل بين أيديهم ممكناً، وجعل القُبْحَ جميلاً، والملح الزُّعَاقَ حلواً طيب المذاق. هذا هو شان الحب، وذلك هو جبروته وسلطانه. فإن علم هذا الرجل، أن في نواميس هذه الحياة سلطاناً أقوى نفوذاً إلى النفوس، وهيمنة على القلوب من سلطانه، فليَشْكُهُ إليه، وليَسْتَعْدِهِ عليه، وليصف له اشمئزاز نفسه من هذا الذي يفعله الحب، بنفوس الناس، ومن العمل الذي يحملهم عليه. ولكن يا عجباً ... يرى ويعلم هذا الرجل وأمثاله ما يفعله الحب الأرعن بأصحابه، أعني ذلك الحب الذي يتسلل على القلب في غفلة من العقل، أومع تحدّ للعقل وأحكامه، إذْ يسوقه إلى شذوذات عجيبة من السلوك ويزجه في أوحال من المهانة والقذارة التي يشمئز من بيانها البيان، فلا يستعظم من ذلك شيئاً، ولا تشعر نفسه الحساسة بأي قرف أو اشمئزاز، بل ما أكثر ما يبارك كتّابٌ وأدباء، وشعراء، هذا هو الشذوذ (الوري)، وما أسهل أن يتصوره أو يصوّره تجسيداً رائعاً للهيجان الخمريّ المعتق. حتى إذا رأى صورة ذلك الحب العلوي الذي ينسكب في المشاعر من القلب والعقل معاً، وأبصر شيئاً من آثاره في حياة صاحبه وسلوكه، تعجب واستغرب، واصطنع التأفف والاشمئزاز، وأخذ يندب اللباقة والذوق الرفيع. ألا فليعلم هذا الرجل وأمثاله أن كل شيء في الدنيا يخضع لقانون مستقل عنه إلّا الحب، فلن تراه خاضعاً إلَّا لقانونه ذاته. والويل كل الويل لمن كان حب قلبه تمرداً على عقله. وليهنأ ذاك الذي كان حبه القلبي تجاوباً مع قراره العقلي. وحسب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرفاً وفخراً أن الحب الذي استبدّ بقلوبهم لرسول الله كان شعاع إيمانهم العقلي بصدق نبوته وسموّ مكانته عند رب العالمين جل جلاله. فليفعل بهم هذا الحب ما شاء، وليحملهم على التبرك والتمسح بعرقه وبصاقه وما يتساقط من شعره، وما يتقاطر من ماء وضوئه .. فإنما هي لغة الحب .. ولا تصاغ لغة الحب إلّا في داخل بوتقته، ولا يتحكم بها غيره. وإني لأعلم أن في الناس اليوم من لو رأت أعينهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - يمشي على الأرض لهاج بهم هائج الحب ولخروا على الأرض يلعقون الثرى الذي سما وازدهى تحت قدمي رسول الله. ولا يخاصم منطق الحب هذا إلّا من يقارعه بمنطق الكراهية والبغض. وخصومة كهذه لا يقرها منطق، ولا يدعمها عقل، إذ من البديهي أن الجدل حول أمر ما، لا يتحرك =