ثم تلقّى المسلمون ما هو أشدّ، حين انتبهت أعصابهم المشدودة من هول مايشاهدونه، إلى فقرة هي في ظاهرها أكثر إيلاماً من سابقها، أقرّ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اشتراطه الذي انتهى الأمر بالتنازل عنه، وهو أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن يتبع محمداً لم يردّوه عليه! هنا تألم المؤمنون، وتعجبوا، وقالوا: سبحان الله، كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً.
في خضم هذا الموقف الذي تأثر منه المسلمون كثيراً نزل فيهم ما هو أشدّ منه وقعاً وتأثيراً بما يشبه الزلزال العظيم في كيان كل منهم، حين هبط على ساحة الحديبية التي فيها يجتمعون مسلم أسيرٌ عند قريش، حبس بداخل مكة، فاستنجد بالله والحيلة والجهد، وفرّ بدينه، يركب الجبال، يتنكب الطريق، قاصداً الملجأ الوحيد الذي يمكنه أن يحتضنه، وهو هذا الجمع المبارك بقيادة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، لكن والده المفاوض سهيل بن عمرو، يشترط أن يكون ولده أبو جندل أوّل ما يقاضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المعاهدة، ويأبى إلّا أن يستردّه، ويمتنع عن إجازته للمسلمين مع تكرار الطلب بذلك من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا بالمسلمين تلفّهم دهشة أخرى، وإذا بالمشاهد المؤثرة تتقاذفهم بعد أن سمعوا نبيَّهم الكريم - صلى الله عليه وسلم - يترك إجازة أبي جندل أمام عناد أبيه، فلا يلمحون في اللوحة التي ترتسم أمامهم سوى صغار وهوان المسلمين أمام استكبار وزهو المشركين بالانتصار في هذه المعاهدة التي تحكي ألفاظها الظاهرة هذه النتيجة. لذلك قالوا: أنكتب هذا يا رسول الله؟ ويجيب - صلى الله عليه وسلم - بلسان الوحي والنبوة التي غفوا عنها لبرهة وجيزة بسبب الوطء الشديد للمعاهدة: إنه مَن ذهب منّا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. لهذا كان عمر في