ولكن ما إن مضت فترة من الزمن، حتى أخذ المسلمون يستشفّون أهمية هذه الهدنة وعظيم ما قد انطوت عليه من خير. فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار ونادوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان متخفياً بالإسلام ... ».
ثم قال:
«ومن الحكم الجليلة، أن الله جل جلاله أراد بذلك أن يبرز الفرق واضحاً بين وحي النبوة وتدبير الفكر البشري، بين توفيق النبي المرسل وتصرف العبقري المفكر، بين الإلهام الإلهي الذي يأتي من فوق دنيا الأسباب ومظاهرها، والانسياق وراء إشارة هذه الأسباب وحكمها.
أراد الله أن ينصر نبوة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أمام بصيرة كل متأمل عاقل ولعل هذا من بعض تفسيره قوله تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣)}، أي نصراً فريداً في بابه، من شأنه أن ينبه الأفكار السادرة والعقول الغافلة (١).
فلا غرابة أن يدهش المسلمون من موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إزاء هذه المعاهدة، وهم يرونه يعطي المشركين كل ما سألوه، ولا عجب أن يستبد الضيق بعمر بن الخطاب؛ لأنهم كانوا يقفون على أرض من بشريتهم، فلا يتبصرون إلّا بمقدارٍ دون أن تتجاوز أبصارهم ما ينتصب حولهم من حواجز الزمان والمكان والأسباب، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يقف في تصرفاته على أرض من حقيقة النبوة التي تتحكم بها عناية السماء بواسطة الوحي الإلهي جبريل، فهو يدرك بها فوق ما يفهمه البشر
(١) فقه السيرة النبوية، القسم السادس الفتح ومقدماته من صـ ٣٤٥ - ٣٤٧.