للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خلاف الأولى لكنّا مأمورين به؛ لأن الله تعالى أمرنا باتباعهم في أقوالهم وأفعالهم، وهو تعالى لا يأمر بمحرم ولا مكروه إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: ٢٨] .

وأما الصدق: فهو مطابقة خبرهم للواقع في دعوى الرسالة والأحكام الشرعية والأخبار العادية؛ لأنهم لو لم يصدقوا لما كان معنى لتصديقه تعالى لهم بالمعجزة النازلة منزلة قوله تعالى: «صدق عبدى في كل ما يبلغ عني» ، وأيضا صدقهم في الأخبار العادية دليله داخل في دليل الأمانة.

وأما التبليغ فهو: تأدية ما أتوا به مما أمروا بتبليغه للخلق بخلاف ما أمروا بكتمانه، وما خيّروا فيه. ودليله: أنهم لو كتموا شيئا مما أمروا بتبليغه للخلق لكنا مأمورين بكتمان العلم؛ لأن الله تعالى أمرنا بالاقتداء بهم، وكاتم العلم ملعون «١» .

ولو جاز عليهم الكتمان لكتم رئيسهم الأعظم صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: ٣٧] . وأصحّ محامله ما نقله من يعوّل عليه في التفسير عن علي بن الحسين من أن الله تعالى كان أعلم نبيّه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك زوجك واتق الله» ، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنّه سيتزوجها، والله مبد ذلك بطلاق زيد لها وتزويجها صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى الخشية: استحياؤه صلّى الله عليه وسلّم من النّاس أن يقولوا: تزوّج زوجة ابنه، أى من تبناه، فعاتبه الله تعالى على هذا الاستحياء، لعلوّ مقامه.

وما قيل من أنه صلّى الله عليه وسلّم تعلّق قلبه بها وأخفاه، فلا يلتفت إليه، وإن جلّ ناقلوه؛ فإنّ أدنى الأولياء لا يصدر عنه مثل هذا الأمر، فما بالك به صلّى الله عليه وسلّم «٢» ؟!.


(١) لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كاتم العلم يلعنه كل شيء، حتى الحوت في البحر، والطير في السماء» رواه ابن الجوزى في العلل عن أبى سعيد.
(٢) ومما قيل أيضا، وهو مرضيّ: إنه كان يخفى في نفسه إبطال عادة التبنّى هذه، فكيف يبطلها؟ وكيف يواجه الناس بإبطال هذه العادة الفاسدة؟ أما ما قيل من غير هذه الأشياء، وما يدور في فلكها من عدم مراعاة مقام النبوة ومكان الرسالة، فهو من قول المستشرقين ومن حذا حذوهم قديما وحديثا، وهو باطل ومردود.