للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بلغهم أنهم عادوا له بالشرّ، فرجعوا إلى الحبشة، ولم يدخل أحد منهم مكة إلا ابن مسعود فإنه دخل ثم خرج ومعه عدد كثير من المسلمين، وهذه هى الهجرة الثانية كما سبق التنويه إلى ذلك في الفصل الثانى في الهجرتين إلى الحبشة من الباب الثانى، وقد سبق أن المهاجرين يزيدون على مائة نفس. أحسن النجاشىّ جوارهم، ومكثوا امنين على دينهم، يعبدون الله كما يحبون، فلما هاجر صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة جمعت قريش مالا من كل ما يستطرف من متاع مكة، وأهدوه إلى النجاشى وبطارقته جميعا، وبعثوا به عمرو بن العاص وعمارة بن أبى معيط، فقدما على النجاشى والمهاجرون عنده بخير دار وأحسن جوار، فلما دخلا عليه سجدا له وقرّبا هداياهم إليه، فقبلها منهما، وقالا له: إن قومنا يحذرونك من هؤلاء الذين قدموا عليك؛ لأنهم قوم رجل خرج فينا يزعم أنه رسول الله، ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء، وقد كنا ضيّقنا عليهم فجاؤوا إليك؛ ليفسدوا عليك دينك وملكك فادفعهم إلينا لنكفيكهم. فغضب النجاشى عند ذلك، وقال: «والله لا أسلمهم إليكما حيث اختارونى على من سواى، حتى أدعوهم وأسألهم عمّا يقولون، فإن وجدت أنهم على خلاف ما تقولون أحسنت جوارهم ما جاورونى» . فأرسل إليهم ليجمعهم، فدخلوا عليه في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه وصاحبه عن يساره، والقسيسون والرهبان جلوس عنده، فلما انتهوا إليه قالوا لهم: اسجدوا للملك، فلم يسجدوا له، فلما سألهم النجاشى عن ذلك قالوا: ما نسجد إلا للذى خلقك وملّكك، وقد علّمنا نبيّنا الصادق تحية أهل الجنة، وهى: السلام. فعرف النجاشى أن ذلك حق، وأنه في التوراة والإنجيل، فقال: اختاروا من يتكلم عنكم، فقال جعفر: أنا أستأذن وأتكلم. فأذن له فقال جعفر للنجاشى: سل هذين الرجلين (يعنى عمرا وصاحبه) : أعبيد نحن أم أحرار؟ فقالا: بل أحرار كرام، فقال جعفر: سلهما هل أهرقتا دماء بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو: لا، ولا قطرة، فقال جعفر:

سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه؟ فقال النجاشى: إن كان قنطارا فعلىّ قضاؤه، فقال عمرو: ولا قيراط، فقال النجاشى: فما تطلبون منهم؟

قال عمرو: كنا وإياهم على دين واحد، وأمر واحد، على دين ابائنا، فتركوا ذلك واتبعوا غيره، فبعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من ابائهم وأعمامهم وعشائرهم لتدفعهم إلينا، فهم أعلم بما عابوا عليهم وعاينوه منهم. فقال النجاشى لجعفر وأصحابه: ما هذا الدين الذى اتبعتموه وفارقتم فيه دين قومكم، فلم تدخلوا في