للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتّى أقبّل أعتابه، أمكثوا في أرضى ما شئتم. وأمر لهم بكسوة وطعام، وقال لعمرو بن العاص وصاحبه: انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا، ولا أكاد. فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لاتينهم غدا ولأعيبنّهم عنده بما استأصل به خفارتهم «١» ، فقال له صاحبه- وكان اتقى الرجلين-: لا تفعل؛ فإنهم أرحامنا، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن المسيح ابن مريم عبد، فلما كان الغد غدا إليه فقال له:

أيها الملك، إنهم يقولون في المسيح قولا عظيما، فأرسل إليهم واسألهم. فأرسل إليهم، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ [عليه الصلاة والسلام] فقال له جعفر: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، هو عبد الله وروحه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. ثم قرأ عليهم صدرا من سورة مريم فبكى النجاشى حتّى اخضلت لحيته بدموعه، وبكا «٢» أساقفته حتّى اخضلت مصاحفهم «٣» حين سمعوا ما تلى عليهم، وقال: والله يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد فيما يقولون عن ابن مريم. ثم قال لجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضى (والسيوم: الامنون) من سبّكم أو اذاكم غرم، ثم من سبكم أو اذاكم غرّم [ثلاث مرات] وقال: أبشروا ولا تخافوا، فلا دهونة «٤» اليوم على حزب إبراهيم، فقال عمرو: يا نجاشى: ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط، وصاحبهم الذى جاؤا من عنده ومن اتبعهم، فقال عمرو: بل نحن حزب إبراهيم، فاختصم الفريقان في إبراهيم، [فأنزل الله تعالى في ذلك اليوم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ال عمران: ٦٨] ، فقال النجاشى: إنما هديتكم لى رشوة فاقبضوها، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين ملّكنى. فخرجا من عنده خائبين مردودا عليهما ما جاا به، وأقام جعفر وأصحابه ثم في خير دار وأحسن جوار.

ويفهم من فيض عين النجاشى وأصحابه بالدموع حين سمع قراءة جعفر رضى


(١) الخفارة: شدة الحياء، والخفير: المجاور، والمجير، والمعنى أنه يستفزه فلا يجيرهم بعد ذلك فيطردهم، وذلك يذهب بهاء وجوههم في زعه.
(٢) فى الأصل «وبكوا أساقفته» .
(٣) المصاحف: الصحف التى يقرؤن فيها، ومنه سمى المصحف مصحفا لأنه يكتب في صحائف.
(٤) أى لا تحريض ولا أذى.