للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكانت القبائل ترد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتأخذ عنه القران، وكان صلّى الله عليه وسلّم يترجم لكل قبيلة بحسب لغتها من قبائل: قريش، وكنانة، وحمير، وهذيل، وطيّئ، وجرهم، ومدلج، وغيرهم؛ فربما مدّ «١» صلّى الله عليه وسلّم قدر الألف والألفين والثلاث لمن لغته كذلك، وربما فخّم لمن لغته التفخيم، وربما أمال لمن لغته الإمالة، وربما أدغم لمن لغته الإدغام، وربما رقّق لمن لغته الترقيق، وهكذا في سائر وجوه الاداب والأحكام التى أمرنا الله بها ونهانا عنها في القران كلها واحدة، لا تتغير فى جميع القراات، فلما وقع الضبط وأخذت القرّاء القراات عن القبائل ضبط كلّ إنسان ما سمع فقط؛ إذ القياس هنا ممنوع، وجميع التراجم كلها قران منزل، أوحى به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو جاز أن يترجم صلّى الله عليه وسلّم عن القران بغير ما أوحى به إليه لم يخرج عن مرتبتين؛ لأنه إما يترجم بلفظ مساو للوحى أو دونه، فإن كان ذونه: لم يصدق عليه أنه صلّى الله عليه وسلّم بلّغ ما أنزل إليه من ربه، وذلك محال في حقه صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان مساويا: فأيّ فائدة للعدول عن الوحى من الله بلفظ مساو له؟ فما بقى إلا أنه صلّى الله عليه وسلّم بلّغ ما أنزل إليه من ربه بحروفه الحاملة للمعانى القديمة.

وكان ابن عباس رضى الله عنهما يقول: «ما أنزل الله عزّ وجل كتابا إلا بالعربية إذ هى أوسع اللغات، ولكن كان جبريل عليه السلام يترجم لكل نبى بلسان قومه، وليس في القران العظيم إلا لغة العرب، وربما وافقت اللغة منه لغة غير العرب، والأصل عربى لا يخالطه شيء» .

وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن يفد إليه من العرب يعرفون أكثر ما يقوله، وما جهلوه يسألونه عنه فيوضحه لهم، وقد كان النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلّم تكلم بكلام مفصّل مبيّن يعدّه العادّ، ليس بهذّ مسرع لا يحفظ، قالت عائشة رضى الله عنها: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسرد سردكم هذا؛ كان يحدّث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه، وكان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه، وقال له عمر رضى الله عنه: يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: لقد كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظّنيها، وقال: «أنا أعرب العرب، ولدت


(١) أى مدّ الحروف في النطق.