والفكرية القادرة على إقامة مجتمع النهضة المتصل والمشارك في الحضارة الحديثة ( ... ) ينطلق أو يكفئ داخل مؤسسة الدولة، يتقاطع مشروعه ومشروعها ويتوازيان، ولكنه لا يخرج عن المؤسسة) (١١٨) .
وإذا كانت كتابات الطهطاوى التجديدية قد واكبت مساعى محمد على لتحديث المجتمع المصرى، فإن نفيه إلى السودان لمدة خمس سنوات (١٨٥٠- ١٨٥٤) فى عهد عباس الأوّل- الذى امتد ست سنوات فقط (١٨٤٩- ١٨٥٤) - قد جعل سلبيات الحكم المطلق والمستبد تتجسد بقوة في وعيه. فبعد أن كان الطهطاوى يستمد معرفته بتلك السلبيات من اتصاله بالفكر السياسى الأوروبى، أصبحت تجربة منفاه تجربة عيانية جسدت له تلك السلبيات. واللافت أن استبداد عباس الأوّل قد ارتبط بقضائه على كثير من المشروعات الإصلاحية- فى مجال التعليم خاصة- التى أسسها محمد على. وذلك ما كشف لرفاعة عن السلبيات الاجتماعية التى تتولد عن الاستبداد.
وإذا كانت هناك أسباب مختلفة حول أسباب نفى رفاعة- أو على الأقل إبعاده- إلى السودان (١١٩) فإن واحدا من أقواها يتمثل في (احتواء الطبعة الثانية من تخليص الإبريز عام ١٨٤٩ على فقرات تنقد مبدأ الحكم المطلق)(١٢٠) .
ولقد كان ذلك التحول في علاقة الطهطاوى بالسلطة الممثلة في الحاكم، وبروز سلبيات الحكم المطلق أمامه دافعا إلى ترجمته" وقائع تليماك"؛ إذ كانت هذه الترجمة وسيلة لنقد ذلك الحكم، وذلك بما تضمنته هذه الرواية من حواريات كثيرة يقوم فيها الحكيم منظور بتعليم تليماك طريقة تسيير الحكم على أساس من الحرية، ويكشف له عن خطورة الاستبداد وعواقبه الوخيمة.
وعلى الرغم من أن علاقة الطهطاوى بإسماعيل- الذى تولى الحكم في الفترة من ١٨٦٣- ١٨٧٩- كانت" جيدة" فليس من المستبعد أن تكون كتابته" نهاية الإيجاز" بمثابة رسالة ضمنية إلى الحاكم، تقوم على تقديم صورة الرسول (ص) بوصفه نموذجا يجمع بين البطولة، من ناحية، والإصلاح من ناحية ثانية، والخلق المثالى من ناحية ثالثة ... وتعضد هذا" التأويل" مجموعة من الدوال التى تتبدى في كتابات الطهطاوى بعد المنفى بصفة خاصة.