استثنت فقالت:{إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} وهو استثناء من عموم الأزمان، أي أزمان وقوع السوء بناءً على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كل الأوقات إلا وقت رحمة الله عبده، وهو مقصودنا من ذلك كله لنبين عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أمر النفس بالسوء، فإذا كان لا يعصم من اتباع وسوسة النفس في الوقوع في السوء والهم به إلا رحمة الله بعبده في بعض الأزمان، فكيف يقع من نفس الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم أو وسوسة بسوء، وهو نفسه الرحمة المهداة كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} [الأنبياء: ١٠٧] فقصر إرساله على الرحمة للجن والإنس كافة، والآية دليل في غاية الوضوح والنصاعة، ليست على كونه مرحومًا في بعض الأوقات لتتحقق له بذلك العصمة فيها، بل هو الرحمة نفسها في كل الأوقات، ليس لنفسه، بل للعالمين، ليوضح القرآن الكريم بذلك درجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي لم يصل إليها أحد لتكون شاهدًا على عصمته من النفس بعد اتضاح عصمته من الشيطان، فلا الشيطان ولا النفس إذاً لهما عليه سبيل.
ومما يزيد هذا الدليل وضوحًا قوله تعالى في وصف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ}[التوبة: ٦١]، ليجمع البحث ما قيل في كونه رحمة من جميع نواحيها، فكلها حق، ولكن يبقى المعنى الظاهر أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رحمة عامة، ورحمة للمؤمنين خاصة، فأنى تكون لصاحب هذه الرحمة للمؤمنين في باطنه شيء يأمر بالسوء، وهذا السوء لا يقع في أوقات الرحمة، وكيف يرحم المؤمنين، وله أوقات لا رحمة فيها، أوقات الأمر بالسوء، والله يقول عنه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)} [التوبة: ١٢٨] وهي عامة لكل المؤمنين شاملة لكل الأوقات والأحوال، حيث لقنه ربه أن يقول: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} فحياته ومماته وعبادته وتوحيده لله وحده لا شريك له من نفس ولا شيطان ولا هوى، ولا غيره. ولنا عود لهذه الآية.
من جهة أخرى فقد ذكر القرآن الكريم أن هناك نفسين أخريين، هما النفس اللوامة،