الخلل الواقع مع شحذ الهمة واستجمام النفس للتحمل ومواصلة السير، مع النظر في ملكوت السموات والأرض، وربط الدنيا بالآخرة؛ إن طريق المصلحين لأنفسهم وغيرهم طريق طويل وَعِر، ومن ثم يحتاج إلى أخذ النفس بعيدًا عن أهواء المجتمعات، وفسادها، ومشاكلها، ليستطيع المرء أن يضع الدواء المناسب للأدواء المختلفة والعلل المتناقضة، ليساهم بعد خروجه في حل تلك المعضلات، بعد أن أصلح نفسه، وصفى فكره، وفتح عقله وقلبه، ليخالط الناس مرشدًا مصلحًا، لا إمّعة منساقًا، وإن المصلحين المسلمين ليزيدون في اعتكافهم ذلك عن غيرهم بقربهم من ربهم - سبحانه وتعالى -، والتفكر في آخرتهم، مع إعداد الزاد الذي يلاقون به ربهم - سبحانه وتعالى -، مع التفتيش عن آفات النفس والعمل والطريق إلى الله - سبحانه وتعالى -، ليرشدوا سَيرَهُم وأخلاقهُم وعباداتِهم ومعاملاتهم. إنها فرصة لنقاء النفس ومحبة الرب والتعلق ببابه - سبحانه وتعالى -، والتزود بزاد روحي قوي يواصل به المرء رحلته في الدنيا.
جاء ذكر الاعتكاف في القرآن الكريم، سواء في إعداد مكانه، أو في تبيين أهم آدابه التي تعين على تحقق مقصوده، فقال - سبحانه وتعالى - في الأول:{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[البقرة: ١٢٥] فكان الاعتكاف إذًا معلومًا، وقام به الأنبياء منذ فجر الرسالات، وإنه في محل التشريف إذ مكانه فيما أضيف إلى الله - سبحانه وتعالى - "بيتي". وما كان ذلك إلا لكونه من مقصود الشرع في إصلاح النفس والإقبال على الرب، ولذا جاء في
الثاني ليبين أهم آدابِهِ من تخلص النفس من شهواتها، وأهمها شهوة النساء فقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة: ١٨٧]. وإنَّ ما بعد ذلك من الشهوات أخف وأيسر حتى تصفو النفس مما يكدرها، أو يمنع صفاءها.
ومن عجيب التنزيل في هذه الفترة المبكرة من الوحي أن نزلت تلك الآية الكريمة في سورة المزمل، وهي قوله - سبحانه وتعالى -: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}[المزمل: ٨]، حيث أمره - سبحانه وتعالى - بالتبتل أي: بالانقطاع إلى الله - سبحانه وتعالى -، ويلاحظ على ذلك الأمر ملاحظتان: