لقد أجمع الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا في قلة من العدد، أو الضعف في العدة بحيث يغلب على الظن أنهم سيقتلون من غير أي نكاية في أعدائهم إذا أجمعوا على حربهم أن يقدموا مصلحة بقاء النفس على مصلحة الدين الموهومة أو المنتفية، إذ ذلك أيضاً في الواقع مصلحة للدين، لأنه أن تبقى أرواح المسلمين سليمة فيمكن أن يتقدموا ليجاهدوا في الميادين الأخرى المفتوحة، وإلا فإن هلاكهم يعتبر إضراراً بالدين ذاته، وفسحاً للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدوداً أمامهم من السبل. (١)
والكلام عن المسلمين الأوائل يأخذ إلى هذه الأمور، وهي:
١ - أن الاضطهاد لم يكن ليفرق بين الأرقاء والموالى، وبين الاحرار من بيوتات مكة العالية، إلا في ظهوره في الاوائل على روءس الأشهاد.
٢ - أن أولئك الذين أسلموا قد نالهم قسط وافر من التعذيب ليرجعوا عن دينهم، ومع ذلك صبروا وثبتوا، ومنهم من هاجر فراراً بينهم إلى الحبشة، كما سنذكر في مبحث الاضطهاد إن شاء الله تعالى.
٣ - أن الإسلام لم يقف عند حد دعوة الفقراء إلى الإسلام بدليل أن الأكثرية من معتنقيه في تلك الفترة الحرجة والظروف الصعبة كما أشرنا كانوا من أشراف قريش.
وكانوا بعد ذلك القوة الضاربة في أية ملاقاة مع أية عدو، إذ لم يشهد التاريخ أن جيوش سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بدء الجهاد كان الغالب عليهم أنهم من العبيد والموالى، بل كان القادة والفرسان والمشاة كانت أكثر يتهم من أولئك الجند الأبرار من الأشراف، لا يستطيع
(١) انظر البوطى، فقه السير (٧٦ - ٧٧)، وضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية (٢٦١)، وقواعد الاحكام في مصالح الأنام (١/ ١١١ - ١١٢)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (١٦٢).