عدم الاستقرار، والعداوة، التي جعلت الوثيقة الأمن بها لجوف المدينة، ومن قعد ومن رحل كل ذلك آمن. إن ذلك تهديد مباشر ونقض لهذه الوثيقة، حيث أقرت الوثيقة العيش في سلام، لكل أهل المدينة، كما قرأنا في بنودها، ولكن الموالاة التي ينبني عليها المحبة والنصرة والمعونة والتأييد، فهي محصورة فقط في المؤمنين؛ إذ لا يجوز لمسلم أن يوالى كافراً، كما قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة: ٧١] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة: ٥١] وقال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: ٢٨]. وإن كان الإسلام لا يمنع البر والقسط، مع أهل الكتاب المسالمين له.
- ومع ما تقدم، يصح إذن البند (١٧) القائل: إن سلم المؤمنين واحدة، ولكن لا يسالم مؤمن لنفسه من دون المؤمنين، بل إن إعلان الحرب من اختصاص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعليه فإن المسلمين جميعاً يكونون في حالة حرب مع ذلك العدو، فلا يمكن لفرد أن يهادنهم، لارتباطه بسياسة المسلمين الواحدة تجاه عدوهم، وإن عبء الحرب يقع على كل المؤمنين، بحيث تعقب كل غازية أخرى متناوبين في الجهاد.
وفي ختام كلام الوثيقة بين المهاجرين والأنصار، كان المرجع الأعلى لكل خلاف يقع بين المسلمين، مرده إلى الله جل وعلا ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (١).
وبفراغنا من نظرة عجلى، على ما كان بين المسلمين، من شروط في الوثيقة، نشرع في نظرة أخرى، تلقي - كذلك - الضوء سريعاً على شروط المعاهدة بين المسلمين واليهود، مع تحليل ما يهمنا منها لنرد بكليهما على "وات":
(١) ينظر لما سبق، د. البوطي، فقه السيرة، ص ١٦٢، د. أكرم العمري، السيرة النبوية، ص (٢٩٢ - ٢٩٨)، د. مهدي رزق، السيرة النبوية، ص (٣١٦ - ٣١٨)، وبعض ما سبق لأبي عبيد، القاسم بن سلام، الأموال، ص ٢٩٤.