للانتقام منهم، ومجافاتهم، والإعراض عن دعائهم إلى الخير، لا جرم شرع في استئناف غرض جديد، يكون ختاماً لهذا الخوض البديع، وهو غرض أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم، وأن يسعوهم من عفوهم، والدأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله خذ العفو ... الآية (١).
والمتأمل لهذا الأمر بمكارم الأخلاق ليدل المرة بعد المرة على أخلاقية هذا الدين، وأن قضية الخلق الحسن هي محور دعوته، وأن الثبات على هذه الأخلاق تحت مختلف الظروف من أهم مهماته وأقوى مقوماته.
إن التمسك بهذه الأخلاق في تلك الظروف الشاقة، والأحوال العصيبة تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على أن الموجه لهذه الدعوة هو الله تعالى، وبالتالي يدلل ويشهد لصحة الرسالة، إنها أخلاق تخالف معهود البشر كافة، إذ لم يكن في تاريخ البشرية وإلى اليوم والغد من عامل أعداءه الذين دعاهم إلى السمو الروحي والأخلاقي والنفسي بمعرفة الله، فواجهوه بالبطش وأشد التنكيل تلك المعاملة الحسنة، التي تخالف جبلة النفوس، وما كان عليه الواقع، إذ كل الناس ينتظرون من كل قلوبهم لمن آذاهم - إذا لم يتمكنوا منهم - أياماً سوداً يشمتون بهم فيها، ويُسرون لما وقع عليهم إبانها، وأما إذا قدروا على الانتقام فالتاريخ يحدثنا بوقائع يندى لها جبين البشرية خجلاً وأسفاً، في القديم والحديث قد وقعت على أيدي هؤلاء الناقمين المنتقمين، تفيض حقداً وغلاً وظلماً وعدواناً وشططاً إلى آخر ما يذكر المعجم من ألفاظ في هذا الصدد، وتاريخ الروم والفرس ويهود طافح بمثل ذلك في القديم، وتاريخ أوربا الحديث أشد ابتلاء بتلك الأحداث الدامية فيما بين الأوربيين أنفسهم، أو فيما بينهم وبين الشعوب التي استعمروها مما يثير الإشمئزاز والتقزز من مدعي الرقي
(١) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (٢٢٥ - ٢٢٦/ ٩).