وللأسبقية قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦)} [آل عمران: ٩٦]، فجعله هدى للناس لأنه أول بيت، فالبيوت التى أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء من بناها بالبيت الأول.
فلا شك أن أول بناء أقيم لتوحيد الله تعالى وتنزيهه وإعلان ذلك، وإبطال الاشراك هو الكعبة، وبناها أول من حاجَّ الوثنيين بالأدلة، وقاومهم بجعل أصنامهم جذاذاً، ثم قام بأمر الله تعالى بهذا البناء المهيب توحيداً وذكرا؛ ليعلم كل من أتى سبب بنائه، ومضت على ذلك العصور، وتمضى إلى يوم القيامة تذكر رؤيته بالله مع مزية الأولية الباقية، وميزة بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام له بأيديهما دون معونة أحد ولذلك فهو أعرف في الدلالة على التوحيد والرسالة معاً، وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره. (١)
ثم سن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى، ولتعميمها في الأمم الأخرى، فلا جرم بعد ذلك كله أن يكون أَوْلى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة، وما بنيت بيوت الله تعالى كالمسجد الأقصى إلا بعده بعدة قرون فكان حرياً أن يكون قبلة كل من أسلم لله تعالى، وقبلة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبلة المؤمنين معه بالأولية.
وما كان استقبال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبيت المقدس إذن إلا لهذه الحكم التى ذكرنا، وكان في التحويل بعد ذلك إلى الكعبة علاوة على ما سبق بشارة للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال، وبالتالى ستكون وقعة بدر هي الفيصل بين المسلمين وبينهم لذا كان موضوع القبلة بهذا القدر اليسير - الذى يظن به الطول – من أهم الموضوعات الفارقة التى توجه المؤمنين المتقين الوجهة الصحيحة بإخلاص القصد والوجه لله تعالى وبداية للتمايز الذى لا مفاصلة فيه بغير غبش ولا ضبابية بين رافعى راية الله وغيرهم في كل سلوكهم، وتأكيداً
(١) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (٢/ ٣٠ - ٣٢).