للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جادتها، لا تثنيهم المحن ولا يحولهم عنها ما يلاقون من أذى ليخرجهم عن رسالتهم الحقة. فكانت شريعة الأخلاق العالية في كل مراحلها حتى تنتهي الدنيا.

ويدخل في الأمر بالعرف الإتسام به، والتخلق بخلقه؛ لأن شأن الآمر بشيء أن يكون متصفاً بمثله، وإلا فقد تعرض للاستخفاف، وعلى أن الآمر يبدأ بنفسه فيأمرها كما قال أبو الأسود (١):

يا أيها الرَّجُلُ المعلمُ غَيرَه ... هَلاَّ لنفسِكَ كان ذا التعليمُ

وجاء العرف معرفاً ليفيد الاستغراق أيضاً، ليكون شاملاً لكل معروف، فما من معروف من خير وصلاح إلا ودعت إليه هذه الشريعة، ونادى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وندب الناس كافة إليه، لأن حذف مفعول الأمر يفيد عموم المأمورين، وهكذا تكون دعوته الخالدة موجهة للعالمين، فأفادت هذه الكلمة شمولها كل عرف، شمولها لكل أحد، وبالتالي خلودها وبقاءها وصلاحيتها لكل زمان.

وإن شمولها لكل أحد يدخل فيه المشركون دخولاً أولياً، لأنهم سبب الأمر بهذا العموم، وإن إعراضهم لا يصدنك عن إعادة إرشادهم (٢)، والدأب في سبيل هديتهم، وتلك ميزة أخرى من مميزات دعوة الحق، ورسالة السماء.

"والإعراض" مشتق من العارض، وهو الخد، ومعناه إدارة الوجه عن النظر للشيء، وهو هنا مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد، فشبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به، لأن شأن العلم به أن تترتب عليه


(١) انظر الطاهر بن عاشور «التحرير والتنوير» (٩/ ٢٢٧).
(٢) انظر السابق.

<<  <   >  >>