ويكون قوله {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ترشيح لاستعارة {لَا تَرْفَعُوا}، وهو فوق مجازي ويكون موقع قوله:{فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} موقع الحال من أصواتكم، أي متجاوزة صوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات إذ ذلك جهر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا شك أنه نهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر فيها بالجهر، كالأذان وتكبير العيد، وما أذن فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذنًا خاصًا كإذنه للعباس يوم حنين (١) وهذا يدل على علو مكانة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ يأمر المولى - سبحانه وتعالى - عباده بمراعاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحسن معاملته إلى درجة ألا يرفع أحد صوته عنده، فما بال المؤمنين المتقين بغير ذلك من الآداب، قد جمعت له كل وسائل الأدب إذاً على أكمل الوجوه واتمها ظاهرًا وباطنًا، حيًا وميتًا، مرتبة عظيمة تلك التي أنبأنا الله تعالى عن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبلغها أحد من الخلق طرًا، والمقارنة بين ما أمر الله به، وبين ما وصلنا إليه في معاملتنا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما يدعو إلى الأسى والحزن، والخوف من عقاب أليم ينزل لا يبقي ولا يذر، كما أكد سبحانه بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)} [النور: ٦٣]، وإن نظرة لما هبطنا إليه في سلم العلو والحضارة ليخبرنا بالبون الشاسع بيننا وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان الاقتداء به سببًا للعلو والمجد وانتشار الهداية والنور ورفع راية الحق والعدل، والرحمة والمساواة، والسمو المادي والأخلاقي الذي لم يعهد مثله من قبل.
إن ما سبق من الكلام في الأدب الثاني مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان بعدم رفع الصوت في مجلسه وحضرته، وبالتالي يأتي الأدب الواجب المتعلق بمكالمته ومشافهته إذ هذا لصيق الصلة بذلك، حيث كانت مجالسه مجالس الهداية والتعليم والإرشاد والرحمة ونزول السكينة وغيرها من سبل الرشاد مما يستدعي أن يخاطبه الصحابة رضوان الله عليهم سؤالاً
(١) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"، (٢٢٠/ ٢٦).