للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واستفهامًا واستفتاءً واسترشادًا، هل ترك الله جل وعلا لهم مخاطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأي قول أو بأي هيئة بغير أن يبين لهم السلوك الواجب في ذلك تعظيمًا لأبهة النبوة وإظهارًا لعظم المكانة وتبجيلاً له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليعلموا بخطابه أنهم يخاطبون المهيب العظيم المتدثر بالنبوة والذي تقديره وإعزازه من تقدير مرسِله وتوقيره - سبحانه وتعالى -؟ نعم بين لهم ذلك وأوضح لهم في نفس الوقت جزاء المخالفة لذلك وعاقبته المخزية في الأولى والآخرة هذه بداية حروف الأدب الواردة في القرآن الكريم: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)} [الحجرات: ٢].

بين هذا الجزء من الآية شقين من الكلام؛ الأول حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والثاني العقاب المترتب على المخالفة والتقصير في هذا الحق.

لما عطف هذا النهي - عن الجهر - على الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دل على أنه جهر آخر للتغاير بين مقتضى قوله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ومقتضى قوله: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} خاصة وقد تعدى الفعل {تَجْهَرُوا} باللام في قوله {لَهُ}، فدلت اللام هنا على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته، وزاده وضوحًا التشبيه في قوله: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}. (١)

ومعنى الكلام المعظم: ولا تجهروا له بالقول إذا كلمتموه كالجهر الجاري فيما بينكم، بل اجعلوا صوتكم أخفض من صوته عليه الصلاة والسلام، وليس غض الصوت فقط هو المطلوب وإنما ما يدل عليه من الأدب في المحادثة كالتعهد في مخاطبته اللين القريب من الهمس، كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم، محافظة على مراعاة أبهة النبوة وجلالة


(١) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (٢٢١ - ٢٢٢/ ٢٦).

<<  <   >  >>