آنفًا، وهو ما يفيده من الإنجاء العجيب له قبل ذلك من كيد إخوته، ومن إخراجه من الجب، أي مكنَّا ليوسف تمكينًا من صنعنا مثل ذلك الإنجاء الذي نجيناه، فتكون الكاف في موضع الحال من مصدر مأخوذ من {مَكَّنَّا}، والتمكين هنا مراد به ابتداؤه وتقدير أول أجزائه؛ لأنه بحلوله - عليه السلام - محل العناية من عزيز مصر قد خُطَّ له مستقبل تمكينه في الأرض على الوجه الأتم الذي أشير له بقوله تعالى بعد ذلك:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}.
وعطف على {وَكَذَلِكَ} قوله تعالى: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وهي علة كذلك لهذا التمكين؛ لأن الله تعالى لما قدر في سابق علمه أن يجعل يوسف - عليه السلام - عالمًا بتأويل الرؤيا، وأن يجعله نبيًا أنجاه من الهلاك، ومكن له في الأرض تهيئة لأسباب مراد الله تعالى (١)، ثم بعد هذه العناية، وتحقيق ذلك التمكين، وذلك العلم وتلك الحكمة، يأتي هذا المجتبى بأمور الخيانة ومخالفة الرب، والوقوع فيما تنزه عن الوقوع فيه من ليسوا بهذه العناية من البشر العاديين وهذا ما يأباه السياق وينعى على عقول أصحابه، ويدفع أفكارهم.
ثانيًا: قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ونلاحظ تقديم المراودة على تغليق الأبواب، والتهيؤ له، وطلب المبادرة منه؛ لأن المراودة هي المقصودة من إحكام إغلاق الأبواب والتهيؤ، والمراودة: مفاعلة مستعملة في تكرير المحاولة معه - عليه السلام - من راد يرود، إذا جاء وذهب فشبه حال المحاول أحدًا على فعل شيء مكررًا ذلك بحال من يذهب ويجيء في المعاودة إلى الشيء المذهوب عنه، وكأنها أخذت تراوده، وتحاول معه.
(١) انظر العلامة الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (٢٤٦/ ١٢).