عالمًا بتفاصيلها لم يعسُر عليه تفنيدُ من يضلِّلُ بها، وفي ذلك أيضًا عَوْنٌ على الدِّفَاع عن مُرتكِب هَفْوةٍ وصاحب فَلْتَة. وقد يكون الشيءُ نافعًا في وقتٍ، وضدُّه نافعًا في آخرَ، كالشَّجاعة وقت الحَرْب، والأَنَاة وقت السِّلْم.
وأما معرفة الانفعالات ومَنْشَئِها فهي من أكبر ما يعتمدُ عليه خطيبُ القوم؛ إذ به يُمَيِّزُ بين ما تنفعلُ به نفوس العامة، وما تنفعلُ به نفوس الخاصة، وما هو مُشترَكٌ بينهما، وبين أنواعِ الانفعالات خيرِها وشَرِّها، وقوَّتِها وضعفِها، وما هو مقبولٌ وما هو مردود. وقد تَعَرَّض أرسطو إلى ذلك بما عَبَّر عنه بـ (إثارة الأهواء) فقال: "إنها انفعالات في النَّفْسِ تُثِيرُ فيها حُزْنًا أو مَسَرَّةً". وقال أفلاطون:"لكلِّ أمرٍ حقيقةٌ، ولكلِّ زمانٍ طريقةٌ، ولكلِّ إنسانٍ خَلِيقَةٌ، فالتمس من الأمور حقائقَها، واجْرِ مع الزَّمان على طرائقه، وعامِل الناسَ على خلائقهم". فعلى الخطيب ألا يقيس الناسَ على حَذْوِ نفسِه؛ فإنَّ منهم مَنْ يُسَاويه، ومنهم مَنْ يفوقُه، ومنهم مَنْ هو دونه، وليس ما يزهد فيه الفتى -مثلاً- يزهد فيه الصَّبي، ولا ما يخاطَب به الجنديُّ في صَفِّ القتال يخاطَب به الحكيمُ؛ إذ رُبَّ مَحْمَدَةٍ عند هذا هي مَذَمَّةٌ عند الآخَر، فنحن ندعو كلاً منهما -إذا أَرَدْنا منه انفعالاً- بما يُناسِب اعتقادَه. ألا ترى أن حُبَّ التعظيم والفَخْر -مثلاً- لو زَهِد فيه الطِّفْل في المَكْتَبِ كما يزهَد فيه الحكيمُ لاستوى عنده العمَل والكَسل، ولم يهتمَّ بمنافسة أقرانِه فتَضَاءلتْ مواهبُه. وكذلك القناعة المحمودة لا يحسُن أن يذكرَها أو يدعوَ إليها مَنْ يخطُبُ في قومٍ تكاسلوا عن التِّجَارة وفشا فيهم الفَقْر، فإن جاء يخطُب فيمن أعرضوا عن تعاطي العِلْم، أو عن تهذيب النَّفْس لشِدَّة التعلُّقِ بالدنيا حَسُنَ أن يتعرَّض حينئذٍ لمحامد القناعة وأنها أكبرُ غِنًى.