ومن الواجب أن نترجم هذه الظاهرة في ضوء النفسية الأوربية، وخصوصاً في ضوء النفسية الفرنسية، حتى نفهم لماذا اختيرت كلمة Culture المشتقة من الأصل اللاتيني Cultuvare كيما تطلق على صورة ما تفتقت عنه أذهان المفكرين.
فالواقع أن الأوربي عامة والفرنسي خاصة هو (إنسان الأرض)، وإن الحضارة الأوربية هي (حضارة الزراعة)؛ وعليه فإن العمليات التي تستنتج من الأرض خيراتها كالحرث والبذر والحصاد، لها بالضرورة دور هام في نفسية الإنسان الأوربي، كما أن لها دوراً هاماً في صياغة رموز حضارته؛ إذ أن الزراعة هي العملية التي تضم بين دفتيها جميع العمليات السابقة، فهي التي تحدد وتنظم إنتاج الأرض.
فإذا حدث في بعض الظروف- كتلك التي صحبت حركة النهضة في أوربا- أن تعاظم إنتاج الفكر، فلن تكون هناك غرابة إذا ما أطلق عليه الرجل الفرنسي كلمة Culture التي تعني الزراعة إطلاقاً مجازياً.
بيد أن هذه الاستعارة- وهي ما يهمنا في هذا المكان- قد شخصت وصنفت واقعاً اجتماعياً لم يكن مدركاً، فالاستعارة حين أطلقت على الواقع الاجتماعي قد خلقت مفهوماً جديداً هو مفهوم (الثقافة).
فأصبحت Culture منذ ذلك الحين فكرة، ولكنها فكرة تجريبية؛ إنها شيء (حاضر) دُلّ على (وجوده) بواسطة التسمية.
تلك هي الدرجة الأولى في سلم التعريف، وتأتي قوة اللفظة Culture من أنها مرت بهذه الدرجة ثم نمت في اللغات الأوربية منذ ذلك الحين.
ومن هنا نفهم أيضاً أن كلمة (ثقافة) العربية لم تكتسب إلى الآن قوة التحديد التي كان لنظيرتها الأوربية. وإننا مضطرون من أجل هذا إلى أن نقرنها بكلمة Culture في مؤلفاتنا الفنية، حتى كأنها دعامة تشد من أزرها في عالم المفاهيم.