فلا مجال إذن في المرحلة الديناميكية لأن نغض من قيمة الدور الذي يؤديه الشيء في ظاهرة التثقيف.
ولكن قد يحدث في هذه المرحلة وبحكم ظروف خاصة أن يقر التاريخ أسبقية معينة، فنرى في هذه الظروف مجتمعاً معيناً يفقد- إلى حين- السيطرة على (عالم أشيائه)، وعلى الرغم من هذا فهو يحتفظ بالقدرة على إنشائه مرة أخرى، كما حدث في ألمانيا عام ١٩٤٥م.
وبذلك تكون القدرة الخلاقة هي قوة (الأفكار) إذ أن الحرب لم تستطع أن تهدها، بل أتاحت لألمانيا أن تنهض مرة أخرى بعد اندحار الهتلرية: فها نحن أولاء نرى العجلة تتوقف دون أن تتوقف الحركة.
وتتجلى القدرة الخلاقة في الفكرة في التفاصيل ذات الأهمية البسيطة، كما يمكننا أن نلاحظه في هذه الأيام في قربات الباعة الجائلين في شوارع القاهرة، حيث يبيعون (الفوانيس) الملونة لتسلية الأطفال في ليالي رمضان.
فمن الواضح أن (الفوانيس) - وهي شيء- قد أوجدها معنى رمضان، أعني فكرة.
فلا مجال إذن لأن ننكر دور الشيء في خلق الثقافة، ولكنا لا يمكن بحال أن نُخْضِع له الفكرة، بل ينبغي أن نعترف لها بأسبقية معينة في هذا المجال، وبقدر ما يصعب علينا ملاحظة هذه الأسبقية في المرحلة الديناميكية، في نمو ثقافة معينة وفي حركتها، فإنها تكون ظاهرة في المرحلة الاستاتيكية، أي في بداية تحريك الذراع والعجلة، عندما تبدأ عملية التثقيف.
والواقع أن أي مجتمع في بدايته لا يكون قد شاد بعد (عالم أشيائه)، بل كل ما هنالك أن (عالم أفكاره) يبدأ في التكوين، دون أن يشتمل أحياناً إلا على بوادر تفكير إيديولوجي.