للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد وصف الرحمة بالإرسال، كما وصفها به في قوله: {وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: ٢]، أي: يفصل في هذه الليلة كل أمر، أو تصدر الأوامر من عندنا؛ لأنّ من عادتنا أن نرسل رحمتنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التقدير حينئذ: أعني بهذا الأمر أمرًا كائنًا من لدنا، ويليق بجلالنا وكبريائنا، ولا يحسن أن يقال: أن {أَمْرًا} على هذا مفعول مطلق، بل منصوبًا على الاختصاص معللًا بقوله: {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}؛ ليستقل بالتعليل.

قوله: (وصف الرحمة بالإرسال): أي: أوقع الإرسال على الرحمة، وجعلت مفعولًا به، كما أوقع الإمساك عليه في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: ٢]، فعلم من هذه الدقيقة: أن الفعل وصف للفاعل وللمفعول به، وكذلك يقال في قولنا: "ضرب زيد عمرًا": أن زيدًا ضارب، وعمرًا مضروب.

فإن قلت: ذكر أن قوله: {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}: إما بدل من قوله: {إنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، أو تعليل لـ {يُفْرَقُ}، أو لقوله: {أَمْرًا}، فأي الوجهين هو المختار؟ قلت- والمعلم عند الله-: الثاني؛ لأن الجمل كلها حينئذ واردة على التعليل المتداخل، كما يفهم من كلامه، فكأنه لما قيل: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، فقيل: لم؟ فأجيب: لأنه من شأننا التحذير والعقاب، فقيل: لم خصص الإنزال في هذه الليلة؟ فقيل: لأنه من الأمور المحكمة، ومن شأن هذه الليلة أن يفرق فيها كل أمر حكيم، فقيل: لم كان من الأمور المحكمة؟ فأجيب: لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال رحمة للعالمين، ومن حق المنزل عليه أن يكون حكيمًا؛ لكونه للعالمين نذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فقيل: لماذا رحمهم الرب عز وجل بذلك؟ فأجيب: لأنه سبحانه وتعالى هو وحده سميع عليم، يعلم جزئيات أحوال عباده وكلياتها، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وآخرة، وهو وحده رب السماوات والأرض، يربيهم ويرزقهم ويمنحهم مرافقهم، وهو وحده يحييهم ويميتهم، ويثيبهم ويعاقبهم، وإليه الإشارة بقوله: {إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وما بعده تحقيق لروبيته، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه.

?

<<  <  ج: ص:  >  >>