هذه الأمثلة توضِّحُ مسلكَ القائلينَ بـ (الاستِحسانِ) ، والتَّحقيقُ: أنّ الصواب في أحكامِ الأمثلة المذكورةِ مُدركٌ من وجوهٍِ ظاهرةٍ من غير حاجةٍ إلى مصطلح (استِحسانِ) فالمثالانِ الأوَّلانِ لا يُسلَّم الحكم فيهما، فإنَّ تخصيصَ قول من قال (مالي صدقة) بما ذُكر ليسَ صوابًا، بل الأصلُ العمُومُ إلاَّ أن يكونَ القائلُ أراد بذلكَ بعدَ موتِهِ فيكونُ لقولهِ حُكمُ الوصيَّةِ، والمثالُ الثَّاني في قضيَّةٍ فالأصلُ فيها استعمالُ الشَّرعِ للفْظِ (سُجود) ، ولا يُرادُ به الرُّكوعُ إلاَّ في اللُّغةِ، والحقيقةُ الشَّرعيَّةُمقدَّمةٌ على الحقيقةِ اللُّغويَّةِ، خلافًا للحنفيَّةِ، فيكونُ مُتناولاً للسُّجودِ لا للرُّكوعِ بالنَّصِّ لا بالاستحسانِ المُبهمِ المعنى، وأمَّا المثالانِ الآخرانِ فمرجِعُهما إلى اعتبارِ المقاصِدِ الشَّرعيَّةِ في نفعِ المكلَّفينَ فهُما راجعانِ إلى اعتبارِ المصالحِ، وهذا الَّذي سلكَهُ المالكيَّةُ في مثلِ هاتينِ الصُّورتينِ، وسيأتي الكلامُ عن (دليل المصلحة) .
ولا تكادُ ترى المسألَةِ (الاستحسان) مثالاً صحيحًا يأتي على تعريفٍ صحيحٍ، ويكفي أنَّ القائلينَ به اضْطربُوا فيه، حتَّى عدُّوا صُورًا من الأحكامِ ثابتةً بالنَّصِّ (استِحسَانًا) .
ورافعُوا رايةِ الاحتِجاجِ به هُمُ الحنفيَّةُ، وقابلهُم الشَّافعيُّ فأنكرَ ذلكَ بشِدَّةٍ، حتَّى قال رحمه الله: إنَّما الاستحسانُ تلَذُّذٌ (الرِّسالة