للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على النفس، بخلاف السفر من النفس إلى الآخرة فإنه سهل كما قال أبو القاسم الجنيد: "المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهُجران الخَلق في جنب الحق شديد، والمسير من النفس إلى اللَّه صعب شديد، والصبر مع اللَّه أشد" (١).

وأما قوله: "والصبر باللَّه بقاء" فلأن العبد إذا كان باللَّه هان عليه كل شيء، ويتحمل الأثقال ولم يجد لها ثقلًا، فإنه إذا كان باللَّه لا بالخلق ولا بنفسه، كان لقلبه وروحه وجود آخر وشأن آخر غير شأنه إذا كان بنفسه وبالخلق، وفي هذه الحال لا يجد عناء الصبر ولا مرارته، وتنقلب مشاق التكليف له نعيمًا وقرة عين، قال بعض الزهاد: "عالجت قيام الليل عشرين سنة ثم تنعَّمت به عشرين سنة" (٢)، ومن كانت قرة عينه في الصلاة لم يجد لها مشقة وكلفة.

وأما قوله: "الصبر في اللَّه بلاءً" فالبلاء فوق العناء، والصبر فيه فوق الصبر له وأخص منه، كما تقدم، فإن الصبر فيه بمنزلة الجهاد فيه، وهو أشق من الجهاد له، فكل مجاهد في اللَّه وصابر في اللَّه مجاهد له وصابر له من غير عكس، فإن الرجل قد يجاهد ويصبر للَّه مرة فيقع عليه اسم من فعَل ذلك للَّه، ولا يقع عليه اسم من فعل ذلك في اللَّه، إلا على من انغمس في الجهاد والصبر ودخل في الجنة.

وأما قوله: "والصبر مع اللَّه وفاء" فلأن الصبر معه هو الثبات معه على أحكامه، وأن لا يزيغ القلب عن الإنابة، ولا الجوارح عن الطاعة،


(١) أسند قول الجنيد هذا: القشيري في "رسالته" ص ٢٥٥. وذكره الغزالي في "إحياء علوم الدين" (٤/ ٦٧).
(٢) لم أقف عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>