أحسن الكلام ما ثقبته الفكرة ونظمته الفطنة وفصل جوهر معانيه في سمط ألفاظه فحملته نحور الرواة، ووصف الصبر في خير الكلام ما نقدته يد البصيرة وجلته عين الروية ووزنته معيار الفصاحة فلا ينطق فيه بزائف ولا يسمع فيه ببهرج، ووصف الصائغ خير الكلام ما أحميته بكير الفكر وسبكته بمشاعل النظر وخلصته من خبث الإطناب فبرز بروزا الإبريز مركبا في معنى وجيز، ووصف الحداد أحسن الكلام ما نصبت عليه منفاخ الروية وأشعلت فيه نار البصيرة ثم أحرجته من فحم الأفحام ورققته بفطيس الأفهام ووصف الخمار أحسن الكلام ما طبخته مراجل العلم وضمته دنان الحكمة وصفاء راووق الفهم فتشمت في المفاصل عذوبته وفي الأفكار رقته وسرت في تجاويف العقل سورته وحدته ووصف البزاز أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه وحسن رسم معانيه فلم يستعجم عند نشر ولم يستبهم عند طي، ووصف الكحال أصح الكلام ما سحقته في منجار الذكاء ونخلته بحرير التمييز وكما أن الرمد قذى العين كذا الشبهة قذى البصائر فأكحل عين اللكة بميل البلاغة وأجل رمض الغفلة ببرود اليقظة، أو سلوك الطريق في وصف البليغ حين سلكه الجمال قائلا البليغ من أخذ بخطام كلامه وأناخه في مبرك المعنى ثم جعل الاختصار له عقالا والإيجاز له مجالا فلم بند عن الأذهان ولم يشذ عن الآذان أو إخبار الوراق عن حاله على ما أخبر عيشى أضيق من محبرة وجسمي أدق من
مسطرة وجاهي أرق من الزجاج وحظي أخفى من شق القلم وبدني أضعف من قصبة وطعامي أمر من العفص وشرابي أشد سوادا من الحبر وسوء الحال بي ألزم من الصمغ. ولصاحب علم المعاني فضل احتياج في هذا الفن على التنبه لأنواع هذا الجامع والتيقظ لها لا سيما النوع الخيالي فإن جمعه على مجرى الألف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال وأن الأسباب لكما ترى على حد تتباين في شأن الجمع بين صور وصور فمن أسباب تجمع بين صومعة وقنديل وقرآن، ومن أسباب تجمع بين دسكرة وإبريق وأقران فقل لي إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدرأتي يستحلي كلام رب العزة مع أهل الوبر حيث يبصرهم الدلائل ناسقا ذلك النسق " أفلا ينظرون على الإبل كيف خلقت وعلى السماء كيف رفعت وعلى الجبال كيف نصبت وعلى الأرض كيف سطحت " لبعد البعير عن خياله في مقام النظر ثم لبعده في خياله عن السماء وبعد خلقه عن رفعها وكذا البواقي لكن إذا وفاه حقه بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم جاء الاستحلاء وذلك إذا نظر أن أهل الوبر إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي كانت عنايتهم مصروفة لا محالة على أكثرها نفعا وهي الإبل ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب كان جل مرمى غرضهم نزول المطر وأهم مسارح النظر عندهم السماء ثم إذا كانوا مضطرين على مأوى يأويهم وعلى حصن يتحصنون فيه ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال. طرة وجاهي أرق من الزجاج وحظي أخفى من