للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

[رواية مالك عن رجل عن الزهري]

١٨٣- كتب إلي الحاجب أبو الحسن علي بن محمد العلاف رحمه الله من بغداد غير مرة، أن أبا القاسم عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران أخبرهم سنة خمس عشرة وأربعمائة، أنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق بن بنجاب الطيبي، ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن الحسين بن علي الكسائي بهمدان، ثنا إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن فروة أبو يعقوب مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه. (ح) وأخبرناه نازلاً أبو غالب أحمد بن العباس بن محمد سنة خمس وخمسمائة، أنا محمد بن عبد الله بن ريذة، أنا سليمان بن أحمد الحافظ واللفظ لروايته، ثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي وزكريا بن يحيى الساجي قالا: ثنا هارون بن [موسى] الفروي، ثنا إسحاق بن محمد الفروي، ثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر جميعاً، عن ابن شهاب، حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة رضي الله عنها، عن قول أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله عز وجل من ذلك، وكلهم قد حدثني بطائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأحسن اقتصاصاً، وبعضهم يصدق حديث بعض، قالت:

((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، قالت: فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل آية الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة أذن ليله بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فالتمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، فأقبل الذين يرحلون بي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركبه وهم يحسبون أنني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يهبلهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت العقد بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه داعٍ ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، قالت: فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، وكان ⦗١١٣⦘ صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني رضي الله عنه قد عرس من وراء الجيش، فأدلج عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني -وكان يراني قبل نزول الحجاب- فما استيقظت إلا باسترجاعه حين رآني، فوالله ما كلمني ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، ثم أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة –كذا في هذه الرواية، وفي غيرها: موغرين -فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي [بن] سلول.

فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أراه منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: ((كيف تيكم؟)) ، فذلك يريبني ولا أشعر حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم قبل المناصع وهو متبرزنا، لا نخرج إلا من ليل إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه، وأقبلت أنا وأم مسطح نمشي فعثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلاً شهد بدراً. قالت: يا هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((كيف تيكم؟)) فقلت: ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما.

قالت: فأتيت أبوي فقلت لأمي: ما يحدث [به] الناس؟ قالت: يا بنية هوني على نفسك فوالله لقل ما كانت امرأة قط وظبةٌ عند رجل ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: وقد تحدث الناس بهذا؟! قالت: فبت تلك الليلة حتى أصبحت ولا يرقى لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت.

فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم [علي بن أبي طالب] وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي؛ يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعرف من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله ولا نعلم ⦗١١٤⦘ إلا خيراً، وأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيق الله تعالى عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها: ((هل علمت من عائشة شيئاً يريبك؟)) فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق ما رأيت منها أمراً أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين حتى تأتي الداجن فتأكله.

قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي [بن] سلول فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي)) ، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه [فقال:] أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا بالقتال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا.

وبكيت يومي لا يرقى لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فبينا أنا على ذلك إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن كذلك إذ دخل [علينا] رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس -ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني- فتشهد ثم قال: ((أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه)) فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم [مقالته] قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت لأمي، فقالت مثل ذلك، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: والله لقد علمت أنكم قد سمعتم ما يحدث به، وقر في أنفسكم فصدقتم، ولئن قلت: إني بريئة، والله تعالى يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر يعلم الله أني منه بريئة لتصدقني، والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف إذ قال: {فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون} . ⦗١١٥⦘ قالت: ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله تعالى ببراءتي، ولكن ما طمعت أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولأنا كنت أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا تبرئني، قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل الله عز وجل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات، قالت: فسري [عن] رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها قال: ((يا عائشة احمدي الله تعالى، فقد برأك الله تعالى)) فقلت: بحمد الله لا بحمدكم، فقالت أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: [لا] والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل، وأنزل: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} الآيات كلها.

فلما أنزل الله تعالى براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه -وكان ينفق على مسطح- فقال: والله ما أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد ما قال لعائشة ما قال: فأنزل الله عز وجل: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة} إلى آخر الآية، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى [إني] أحب أن يغفر [الله] لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه.

قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش رضي الله عنها عن أمري، فقال: ((يا زينب ما علمت وما رأيك)) : فقالت: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً، قالت عائشة رضي الله عنها: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله عز وجل بالورع، وطفقت أختها حمنة بن جحش تحارب عنها فهلكت فيمن هلك.

قال الزهري رحمه الله: فهذا ما انتهى إلينا من حديث هؤلاء الرهط.

هذا حديث ثابت صحيح من عيون الأخيار ومشاهيرها، يروي من عدة وجوه، ولم يسقه هذا السياق إلا الزهري، ويروى، عن هشام بن عروة، عن أبيه، ويروى عن عمرة، عن عائشة وعن ابن عباس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم.

ولم يروه عن مالك هكذا إلا الفروي، وقع لنا عالياً جداً من حديثه.

والغزوة التي أشارت إليها هي غزوة بني المصطلق من خزاعة.

⦗١١٦⦘ وكانت الوقعة بالمريسيع ماء لخزاعة بين مكة والمدينة.

والهودج: من مراكب النساء.

والعقد: القلادة.

وجزع أظفار: هكذا يرويه عامة أصحاب الحديث، ويزعم أهل اللغة أن صوابه: جزع ظفار مبني الراء على الكسر. وظفار اسم مدينة باليمن. وجزع: نوع من الخرز منسوب إلى هذا البلد.

ولم يهبلهن: أي لم يثقلهن بسمنهن وكثرة لحومهن.

والعلقة: المسكة، وهي القدر الذي لا تبقى بدونه النفس دون الشبع والاستكثار من الطعام كما يفعله من يريد السمن.

وأذن بالرحيل: يحسب بعض الناس أن التأذين للصلاة فحسب، وليس كذلك وقد ورد في القرآن {فأذن مؤذن بينهم} ، {ثم أذن مؤذن أيتها العير} ، ويروى: فآذن، أي: أعلم، والتأذين يرجع إليه.

وقولها: (فلم يستنكر القوم ثقل الهودج) ، كذا في هذه الرواية وفي غيرها: (خفة الهودج) ، وهو أجود في المعنى.

وقولها: (سيفقدوني) -بتشديد النون-؛ لأن الأصل سيفقدونني فأدغمت إحدى النونين في الأخرى، كقوله تعالى: {قل أفغير الله تأمروني} ، وإن خففتها جاز.

ومعرسين: كذا ورد في هذه الرواية وفي روايات أخر وفي بعضها: موغرين، أي: نازلين في وقت الوغرة، وهي وقت انتصاف النهار وشدة الحر.

والمناصع: برية قريبة من المدينة.

ويريبني: يشككني.

ونقهت –بفتح القاف-: برأت من المرض.

وقولها: (يا هنتاه) ، يقال في الكناية عن المذكر: هن، وعن المؤنث: هنة، وفي الندبة: يا هناه ويا هنتاه، وقد يسكن تخفيفاً.

وتيكم: إشارة إلى مؤنث والخطاب للجماعة.

وأغمضه: أعيبه، يقال: غمض يغمض، وغمص يغمص.

⦗١١٧⦘

والداجن: الشاة تعلف في البيت.

وتساميني: من المسامة وهي المفاخرة والمباراة.

وقول زينب: (أحمي سمعي وبصري) : أي إن قلت سمعت، ولم أسمع، أو رأيت، ولم أر، عذبت في سمعي وبصري، فأحمي سمعي وبصري بأن لا أكذب عليهما.

وقلص: ارتفع وانقطع.

والبرحاء: شدة الحمى.

والجمان: الدر، أي: عرق يمثل الدر.

وقوله: ((من يعذرني)) ، أي من الذي يعرف عذري إن عذبت الذي خاض في الإفك وعاقبته.

آخر المجلس وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

<<  <   >  >>